في جريدة القدس العربي
مستقبل المقاومة العربية في عهد الثورات الديمقراطية
عبد الوهاب الأفندي
mardi 26 avril 2011
جريدة القدس العربي 2011-04-25
في عام 2006، نشر الناشط السياسي التونسي المعروف د. منصف المرزوقي مقالة بعنوان ’المقاومة : الحق والواجب و الحلّ الأخير’، قدمت طرحاً ’ثورياً’ (بكل معاني الكلمة) حول أسلوب مقاومة الاستبداد في العالم العربي. وكان ملخص النظرة التي طرحها المرزوقي أن أنظمة الاستبداد العربي غير قابلة للإصلاح، لأن الإصلاح يمثل بالنسبة لها انتحاراً أكيداً. وبنفس القدر فإن المعارضة الشكلية التي تسمح بها هذه الأنظمة، عبر تشكيل أحزاب صورية ومساحة محدودة للتحرك المدني، لن تكون بحال باباً للتغيير الديمقراطي، لأنها لا تعدو أن تكون ديكوراً يقصد به تثبيت الأنظمة لا تغييرها.
ويختتم المرزوقي بالقول بأن هذه الأنظمة تحولت إلى أنظمة احتلال داخلي، وأن التعامل معها لا بد أن يكون نفس نسق التعامل مع أنظمة الاحتلال الاستعمارية، أي باستخدام نهج المقاومة لا المعارضة. فالمعارضة تكون متاحة في الأنظمة الديمقراطية، أما مع أنظمة الاحتلال، فإن النهج يجب أن يكون المقاومة الهادفة إلى اجتثاث هذا ’الاستعمار الداخلي’ من جذوره.
ولكن المرزوقي لم يكن يدعو للمقاومة المسلحة، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل شدد على الابتعاد عن العنف لأنه يصب في مصلحة الأنظمة التي تعتمد في بقائها على الدعاية القائلة بأنها تمارس القمع لأن المعارضة تنتهج العنف أو تضمره. وعليه لا بد من نزع هذا السلاح من يدها، وعدم إعطائها أي عذر للتنكيل بخصومها تحت هذه الذريعة. وإنما يكون التغيير بالاتجاه مباشرة للشعب وتعبئة الجماهير للتحرك ضد النظام. وهنا يجب الاستهداء بنماذج مثل الانتفاضة الشعبية في جورجيا عام 2004، كما يفصل المرزوقي في تصريحات ومقالات سابقة ولاحقة. فنهج التغيير في تونس مثلاً يجب أن يقوم أولاً على القطيعة مع النظام، والمطالبة برحيل الرئيس بن علي وعدم الاعتراف بشرعيته وعدم التفاوض معه أو الاشتراك في الانتخابات التي يرتبها النظام. وانتقد المرزوقي المعارضة المهادنة، وكذلك انقسامات المعارضة بين إسلاميين وعلمانيين، داعياً إلى قيام جبهة ديمقراطية عريضة توحد كل معارضي الاستبداد.
وتوعد بأنه سيسعى إلى تخطي المعارضة ومخاطبة الشارع مباشرة، وتحريض الشباب والعمال والفلاحين على التظاهر والإضراب والعصيان المدني. وتنبأ المرزوقي (عام 2004) بأن التغيير سيأتي خلال نحو خمس سنوات. كما هو معروف الآن فإن الثورة التونسية حين وقعت اتبعت إلى حد كبير النهج الذي دعا له المرزوقي، رغم أن الرجل وحركته لم يكن لهما دور مباشر في الأمر. ولكن مطلب القطيعة مع النظام السابق، واختيار نهج التحرك المباشر عبر الشارع كان عين ما دعا له. وكما ينبغي فإن المرزوقي استقبل استقبال الأبطال حين عاد إلى تونس المحررة، عرفاناً بموقفه الصلب غير المهادن، في وقت كان فيه معارضون كثر في الداخل قد اختاروا أنصاف الحلول. دافعنا للاستشهاد برؤية المرزوقي، إضافة إلى الإشادة ببعد نظره ورؤيته الصادقة للأمور، هو طرح السؤال من وجهة النظر الأخرى : أي إذا كان المرزوقي قد رأى في نهج المقاومة النموذج الذي يجب أن تنسج عليه المعارضة، فهل يمكن أن يقال اليوم إن نهج الثورات العربية هو النهج الذي يجب أن تتبناه المقاومة؟ هذا السؤال يكتسب أهمية إضافية من أحداث سورية المتسارعة، حيث كل الدلائل تشير إلى أن نظام الأسد هناك في طريقه إلى اندحار مؤكد.
وإذا بقي ـ وهو احتمال بعيد جداً ولكنه واردـ فإنه سيبقى نظاماً كسيحاً مهووساً بصراع البقاء، وقد يتمزق البلد إلى كانتونات ’صومالية’ أو ’لبنانية’. وهذا يعني أن المقاومة اللبنانية ستفقد بالقطع سندها الأكبر وقناة الدعم القادم من إيران، مما سيقلب الموازين في المنطقة. وبنفس القدر فإن المقاومة الفلسطينية التي تتخذ قياداتها من سورية مقراً لقياداتها ستجد نفسها في وضع حرج، مما يفرض إعادة الحسابات. والمأمول أن تتجنب الفصائل الفلسطينية الانجرار إلى فخ المواجهة مع معارضي النظام، لأن في هذا مهلكة، وكفى بلبنان والأردن عبرة. ويبدو أن المقاومة العربية عموماً والمقاومة الفلسطينية خصوصاً في حاجة لمراجعة شاملة لاستراتيجياتها في ضوء التطورات الأخيرة وفي ضوء ضرورات الواقع. فمن جهة فإن هذه التطورات ستغير بالضرورة موازين القوى في المنطقة. وليس سراً أن إسرائيل كانت أكثر جزعاً من الانتفاضات العربية من سكان القصور المهددين بها، خاصة في مصر. وقد جندت إسرائيل كما رأينا آلاتها الدعائية، وأنصارها من ’المفكرين’ والأكاديميين والباحثين لشن الحرب الإعلامية على الثورات العربية، ومحاولة إجهاضها ببث الفتنة بين مكوناتها، وتخويف العواصم الغربية من عواقبها، والتشكيك أساساً في أنها ديمقراطية.
وقد أشارت إسرائيل وأنصارها تحديداً إلى فلسطين ولبنان، مذكرة بأن الانتخابات في كل من البلدين أتت بالمقاومة إلى السلطة، مضيفة بأن هذه الثورات في أفضل الأحوال ستكون ثورات إسلامية وفق النموذج الإيراني. ولا شك أن الإسرائيليين محقون في جزعهم من الثورات العربية، لأن سقوط الأنظمة الموالية وقيام نظم حكم أكثر توافقاً مع نبض الشارع العربي سيغير من الوضع القائم الذي نعمت فيه إسرائيل بحماية الأنظمة العربية المجاورة، أمنياً وعسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً. ولكن رفع الحماية لا يعني بالضرورة التحول إلى المواجهة، وعليه فإن أقصى المتوقع خلال الفترة المقبلة هو تخفيف الحصار على فلسطين وزيادة الضغط على إسرائيل سياسياً ودبلوماسياً. وعلى أفضل تقدير، فإن التغيير السياسي سيعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل توقيع اتفاقيات كامب دايفيد عام 1978، مع فوارق منها أن الموقف العربي عموماً لم يعد يضع المواجهة المسلحة في حسبانه، كما أن التحولات التي أعقبت غزو الكويت عام 1990 خلقت معادلات جديدة أصبح التحالف فيها بين الولايات المتحدة وبعض الدول العربية على درجة كبيرة من العمق.
ومهما يكن فإن عودة الظروف إلى ما كانت عليه قبل اتفاقيات السلام لن يؤدي بالقطع إلى عودة المقاومة إلى ما كانت عليها وقتها، مع أنها لوعادت فلن تكون إضافة إيجابية إلى الواقع. فقد كانت المقاومة بشكلها القديم جزءاً من المشكلة وليس الحل، حيث اشتغلت المنظمات بصراعاتها الداخلية أولاً، ثم تورطت في الصراعات العربية الداخلية ثانياً، وتحولت إلى أدوات في أيدي بعض الأنظمة العربية الدكتاتورية ثالثاً. وخلال الفترة ما بين انطلاق المقاومة عام 1965 وتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، لعل نسبة المعارك التي وقعت بين المقاومة وإسرائيل إلى الصراعات بين قوى المقاومة أو بينها وبين دول وقوى عربية أخرى لم تزد على واحد بالمائة. الأمر لم يتغير كثيراً في الوضع الفلسطيني الراهن، حيث أثبتت القوى الفلسطينية قدرة إعجازية على توجيه البنادق إلى صدور الفلسطينيين، بينما بشرت الإسرائيليين بطول سلامة، سوى إطلاق صاروخ هنا أو هناك، غالباً ما يسقط في الصحراء، ولكنه يؤدي إلى انصباب حمم من القذائف والصواريخ الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين (والفلسطينيون كلهم مدنيون). عملياً إذن فإن ’المقاومة’ تحقق نجاحاً أكبر في قصف الفلسطينيين، لأن صواريخها لا تنكأ الإسرائيليين، بينما الرد يصيب الفلسطينيين في مقتل.
ولا يتعلق الأمر فقط بكون فلسطين المحاصرة تفتقر إلى الأسلحة، لأن ما يسمى بـ ’ثورة الشؤون العسكرية’ التي تشكلت منذ نهاية الثمانينات قد قلبت الموازين العسكرية بصورة جذرية لصالح التفوق التقني على حساب الكم. وقد كان هذا عاملاً مهماً في إعلان الاتحاد السوفييتي الهزيمة واختياره الانسحاب من المعركة. وكما شهدنا في العراق وكوسوفو ونشهد حالياً في ليبيا، فإن التفوق الجوي والتقني يجعل تكديس الأسلحة التقليدية بلا قيمة. ويكفي مشاهدة الوضع في ليبيا اليوم، حيث تواصل طائرات حلف الأطلسي صيد آليات الجيش الليبي وقصف المواقع الرسمية دون أن يتعرض جندي واحد من الحلف لخطر الإصابة. وعليه فإنه حتى لو تمكنت المقاومة من الحصول على أسلحة أفضل وبكميات أكبر فإن هذا لن يغير كثيراً من المعادلة. من هنا فإن المراجعة تستدعي تغيير نهج المقاومة، استهداءً بالمنهج الذي كان دعا إليه د. المرزوقي ونفذته الجماهير العربية للإطاحة بالأنظمة، وهو عين المنهج الذي كانت المقاومة الفلسطينية قد انتهجته في انتفاضة عام 1987، وحقق نجاحاً ملموساً أهدرته منظمة التحرير بتوقيع اتفاق أوسلو المنقوص. بالطبع هناك بديل آخر، وهو تطوير تقنيات عسكرية متقدمة للتعامل مع الواقع العسكري الجديد. ولكن هذا، فوق أنه قد يستغرق وقتاً، يفقد المقاومة مزايا التفوق الأخلاقي والتعاطف الدولي.
حالياً فإن إسرائيل تستفيد من خطاب ’المقاومة’ الذي يؤكد التمسك بالخيار المسلح ولا يتبرأ من استهداف المدنيين لتبرير تعاملها الوحشي مع ’الإرهابيين’ الفلسطينيين لحماية المدنيين الإسرائيليين، مما جعل هذا الخطاب (وهو خطاب أجوف وغير دقيق، لأن عددا من أصيب من الإسرائيليين في إطلاق الصواريخ منذ قامت إسرائيل لا يكاد يذكر) سلاحاً دعائياً وسياسياً في يد غلاة الإسرائيليين من أمثال نتنياهو الذين يذرفون دموع التماسيح على المدنيين الإسرائيليين ’الغلبانين يا حسرة !’ الذين يتعرضون لوحشية الإرهاب الفلسطيني. ولعله حان الوقت لنزع هذا السلاح من يد إسرائيل بالإعلان فوراً عن التخلي عن نهج المقاومة الحالي والتمسك بخيار الانتفاضة السلمية. ويكتسب هذا التوجه أهمية كبيرة من قرار شباب الثورة إطلاق الانتفاضة العربية-الفلسطينية الثالثة في 15 ايار/مايو المقبل، وهو قرار قد يواجه بقمع إسرائيلي وحشي بحجة أنه قد يمثل غطاء للإرهاب الفلسطيني. ولكن اتخاذ قرار استباقي من المقاومة بالتمسك بالمقاومة السلمية يسحب هذه الذريعة. وهناك أكثر من عامل إيجابي يؤيد مثل هذا التوجه، بدءاً من نجاح الثورات العربية والمناخ الإيجابي الذي خلقته، إضافة إلى أن نهج الانتفاضة هو أسلوب مجرب ناجح فلسطينياً، وسيجد الدعم من قبل الشعوب العربية أولاً ثم العالم بأسره ثانياً. والفلسطينيون لن يجدوا أي صعوبة في إطلاق انتفاضة، لأنهم لا يواجهون العراقيل التي واجهتها الثورات العربية في تحفيز الجماهير واختراق حاجز الخوف وتحقيق الإجماع الشعبي. فالإجماع الشعبي الفلسطيني حول غاية التحرير قائم، والإرادة الشعبية متوفرة، والخوف لا مكان له. بل لعل إطلاق انتفاضة سلمية يكون الأداة لتوحيد الإرادة الفلسطينية وإنهاء الانقسام حول نهج إدارة الصراع مع إسرائيل، وهو خلاف بين من يدعون للمقاومة بدون قدرات، ومن يحبذون المفاوضات بغير أفق. ولكن إطلاق الانتفاضة السلمية ينهي هذا الخلاف، لأنه يوحد طاقات الشعب حول المقاومة الفاعلة، بينما ينهي دورة التفاوض العبثي بزعم أنه الخيار الوحيد المتاح. فهلا نهض الفلسطينيون وتوحدوا حول خيار المقاومة الحقيقية التحاقاً بروح العصر السلمية في الوطن العربي؟
’ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن