في فضل الدكتاتورية وأياديها البيضاء علينا
الاربعاء 6 نيسان (أبريل) 2011
حديث الساعة والثورة تدخل في شهرها الرابع، تفجّر أحداث العنف في العاصمة وآخر مظاهره مشادّة بين أحياء في المدينة العتيقة. وخارج تونس ليس الوضع بأحسن فالسلطة تفرض حظر التجول في مدينة المظيلة، بعد وقوع جرحى وقتيل في معارك بين حيّين. واليوم تأتينا الأخبار بمواجهات بالغة العنف بين أبناء مدينة جلمة وحي باب الجزيرة في تونس. من أغرب ما سمعت في هذا السياق مشادّة داخل مدينتِي دوز وكأن النعرات القبلية القديمة تحركت بين عشية وضحاها.
ولاكتمال الصورة تقرأ في الصحافة أن جمهور نادي كرة قدم (الزمالك) هاجم الفريق التونسي (النادي الافريقي) وبطش باللاعبين التونسيين الذين لم ينقذ حياتهم إلا الجيش. وكنا نعتقد بسذاجة أن الشعب المصري سيتلقى بالأحضان لأبناء الشعب الشقيق، وأن المباراة ستكون فرحة انتصار الشعبين في ثورة قادها شباب البلدين بتنسيق لم يُعرَف له مثيل.
كلّ هذا في إطار تفجّر المطالب المشروعة وغير المشروعة، و التي من مظاهرها الاعتصامات المتواصلة وقطع الطرق وطرد كل مسؤول والتطاول على كل مظاهر السلطة ولو كانت سلطة الآباء والمربين، مع تبعات مثل هذه التصرفات على اقتصاد تعطلت كل دواليبه، الشيء الذي ينذر بتفاقم الأسباب التي أدّت إلى الثورة. حدّث ولا حرج عن كل هذه الأحزاب التي تتكاثر كالفقاع يوما بعد يوم وعن كل هؤلاء الزعماء الذين برزوا من تحت الطاولة مهددين بكثرتهم بشلّ كل المشروع السياسي، حيث لم يعد للمواطن المسكين أي قدرة على التفريق بين الغثّ والسمين.
هل تتهدّدنا عودة الصراعات القبلية حتى في تونس التي خلنا القبلية فيها اندثرت، وفي أحسن الحالات هل ستعود الصراعات الجهوية بلا قناع والبعض يتحدّث عن ضرورة وضع حدّ لحكم “السواحلية” وبعض هؤلاء يتحدثون عن ضرورة الدفاع عن “بلادهم” ضدّ الهمج القادمين من سيدي بوزيد وما جاورها؟
هل سنتحسّر نحن أيضا على عهد الإستقرار والأمان الذي كنا نعيش في ظله قبل اندلاع الثورة التي سيكف الكثيرون عن وصفها آليا بالمباركة؟ وهل سنتذكّر فجأة كم كان انهيار الدكتاتورية مكلفا لشعوب البلقان و كيف أن مئات الآلاف قتلوا في الحرب الأهلية التي تبعت تفكّك النظام الشيوعي في يوغسلافيا؟
كأنني أسمع عبارات التشمّت: الآن تأتينا بهذه الملاحظات بعد أن أشبعتنا أنت وأمثالك خطابا غير مسؤول عن ضرورة الثورة… الآن انتبهت إلى أننا لم نكن ناضجين ولا حتى جديرين بالديمقراطية التي صدعت رؤوسنا ربع قرن بالدعوة إليها. مهلا يا متشمتين، وأنتم يا أنصار الثورة السلمية كفوا عن تحميل فلول البوليس السياسي والحزب البائد كل مشاكل المرحلة، حتى وإن كان لهم فيها ضلع. لقد نسيتم جميعا جملة من الحقائق الثابتة آن الأوان لاستحضارها.
سنوات تدريس الطب في كليات تونس وسوسة وباريس، كنت أعلّم الطلبة في حلقات التكوين المبنية على النقاش الجماعي لا على التلقين، أنه قبل الإنطلاق في اختيار برنامج وقاية والشروع في تنفيذه، لا بدّ من عرضه بمنتهى الدقة والصرامة على نوع من المصفاة الذهنية، تتمثل في ثلاثة أحرف: إ-س-م.
كنت استفزّ ذكاء الطلبة ليكتشفوا ما أقصد بالحرف الأول وكان أذكاهم ينتبهون بسرعة إلى أنه يعني إنجازات أي ما يحققه تنفيذ البرنامج من إيجابيات على صحة الأفراد والمجموعات. بعدها كان من السهل على الجميع الانتباه إلى أن حرف س يشير لكل السلبيات المحتملة للبرنامج، وكان الكثير منهم يغفلون بسبب كمِّها عن العديد من المشاكل المختفية وراء الإيجابيات مثل التكلفة الباهظة أو صعوبة التنفيذ لألف عامل وعامل، وحتى عن ظهور مشاكل صحية في شكل آثار مرافقة للعلاج. كنا مثلا نناقش تبعات حملة توعية صحية بالتلفزيون في ميدان مرض نقص المناعة المكتسب. وكنت أدفع الطلبة للتفكير في مضاعفات مثل هذه الحملة وكيف أنها في الوقت الذي تعلّم فيه البعض الوقاية من المرض، فإنها تتسبب في انتشار الخوف والقلق والريبة بين المواطنين. وبعد استعراض مدقق لهذه السلبيات، كان بديهيا أن م تحيل إلى ردود الفعل على هذه السلبيات، أي إلى طرق مقاومتها المؤدية إلى إفشال برنامج لم نرَ في البداية سوى حسناته.
هكذا كانت تتضح للطلبة صعوبة الخيار بين استراتيجيات مختلفة وأن الحكمة تُجبرنا أحيانا على التخلي عن برنامج تبعاته السلبية أكبر من تبعاته الإيجابية وقد يوَلِّد ردود فعل تزيد الطين بلّة.
أغلب خياراتنا في هذا العالم خاضعة لتحليل إ-س-م. حيث لا وجود لحلول شاملة و مطلقة لمشاكل بالغة التعقيد والتداخل، كالتي بين أيدينا. إنْ أكلتَ التفاحة كان الإنجاز المتعة والصحة وأول السلبيات نهاية التفاحة ومن بعض ردود الفعل المحتملة الإسهال إن كانت ملوثة بالجراثيم.
مما يعني، أحببنا أو كرهنا، أن الديمقراطية ليست حلا شاملا مطلقا لكل مشاكلنا.
هي أيضا تولّد سلبيات كالتي نعيشها اليوم عبر مظاهر الفوضى، أوالتي تُجرّبها أعرق الديمقراطيات حيث نرى الفساد والديماغوجية وعزوف الناس عن التصويت، وكمظهر من مظاهر ردّ الفعل تظهر فيها الأحزاب اليمينية وكلها حركات تتخفى بالديمقراطية ولكنها في الواقع تنظيمات استبدادية فكرا وروحا.
خذ الآن النظام السياسي الديمقراطي وطبِّق عليه منهجية تحليل إ-س-م إن اخترتَ النظام البرلماني بالنسبية المطلقة، حقّقتَ الديمقراطية في أروع مظاهرها و رأيتَ كل التيارات السياسية ممثلة في البرلمان. المصيبة أن مثل هذا النظام يتمخض دوما عن عدم استقرار مزمن والفسيفساء الممثلة في البرلمان في صراع دائم حول تشكيل الحكومات وإسقاطها. هكذا تصبح السياسة سياسوية، وتُعطَى لأقل الأحزاب تمثيلا قدرة لعب دورِ مُرَجِّح الكفة لهذا التيار الذي ينقصه صوت واحد أو لذاك التيار المستعد لكل التنازلات للفوز بصوته. هكذا تنقلب الديمقراطية من حكم الأغلبية إلى دكتاتورية الأقلية، وفي آخر المطاف تولّد كل هذه السلبيات ردة فعل تحْمل لسُدّة الحكم الرجل القوي كما حصل في فرنسا سنة 1958 بعودة الجنرال ديغول وفرضه النظام الرئاسي.
لكن هذا النظام الأخير أيضا، و رغم إيجابياته المتعددة مُثقَل بسلبيات كثيرة. من يعلم أن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان كان يعاني من أولى أعراض مرض الزهايمر وهو في نهاية حكمه؟ كم من قرارات اتخذها الرجل والمرض بصدد تخريب دماغه؟ طبِّق نفس المنهجية على النظام البرلماني بالأغلبية، الذي يظنه السذّج الحل السحري. يا للسخرية أن ينسوا أن الحبيب بورقيبة انتُخب رئيسا للوزراء من طرف برلمان كان للحزب الدستوري فيه الأغلبية المطلقة، وأن ذلك ما مكنه من إعلان ما سُمِّيَ بالجمهورية ووضْعِ أسس الإستبداد الذي عشنا تحت نَيْره نصف قرن. من يتذكّر أن هتلر وموسيليني وانديرا غاندي كانوا نتاج نظام برلماني أغلبي، انتُخبوا ديمقراطيا من قبل شعب سيّد نفسه لكنه أعاد عبر صندوق الإقتراع الأصفاد ليديه؟
في نفس السياق علينا الاعتراف بأن للإستبداد ….إنجازات ، منها لجم العنف داخل مجموعات بشرية كأنها جبلت على حب النزاع، ومنها أيضا أنه يفرض الإنضباط على من لا يفهمون أن حريتي تتوقف حيث تبدأ حرية الآخر. نحن نرى في الصين قدرته على شحذ طاقات أمة جعل منها ثاني اقتصاد في العالم وغدًا ربما الأوّل. لكن من يتمعّن في سلبيات مثل هذا النظام يكتشف كما اكتشفنا كل الموبقات والفظاعات التي تُغَطِّي عليها الإنجازات. ولولا أن ثمنها قد تجاوز آلاف المرات المقبول عند المجتمع، لما قامت مقاومة لها. تلك المقاومة التي نراها في مواجهة أفراد وجماعات معزولة في البداية، لكنها ستنتهي حتما إلى ثورة عارمة. قد يحلو للبعض من السُّذَّج أو الخبثاء أن يطلعوا علينا بنظرية الديمقراطية الإستبدادية. عدا صعوبة التوفيق بين الماء والنار فإن مثل هذا النظام كذلك لن يسلم من قاعدة إ-س-م.
مُجمل القول أنّ علينا مواجهة الواقع لا محاولة التحايل عليه. والمواجهة تقتضي أن نقبل بكل الفوضى الحالية إذ لا مناص منها. نَعمْ، الصراخ يتعالى من كل حدب وصوب بالمطالب وكأنّ هناك شخصا أو نظاما قادرا على أن يقول كُن فيكون. نعم، الزعماء يتكاثرون كالفطر والأحزاب تتوالد من بعضها البعض، ولا أحد يدري كيف ستتم هذه المهزلة. نعم، أحزاب الإستبداد القديم تتهيكل بل وتعطي دروسا في الثورة لمن مهّدوا لها الطريق بتضحيات لا يعلمها إلا الله. نعم، أدى رفع الغطاء الحديدي الذي كان الإستبداد يضعه على تناقضات المجتمع إلى عودة كل المطمور من العنف والقبلية.
يبقى أن كل هذه النواقص والعيوب وتلك الأخرى التي ستنتجها ممارسة الديمقراطية، لا وجه للمقارنة بينها و بين نواقص وعيوب الإستبداد. وبخصوص إنجازات الإستبداد فهي بالأساس لمصلحة طبقة طفيلية ومجرمة، تتعامل مع المجتمع كمافيا تستغل مدينة وتفرض عليها العيش تحت راية الخوف والذلّ. أما استقراره فليس إلا استقرار المستنقعات أوحتى المقابر. ما من شك ّ أنه لم يحدث أن مجتمعا قام يوما بثورة عارمة ضد الديمقراطية. لكن كم من ثورات عارمة قامت ضد الدكتاتورية وآخرها التي نعيش فصولها يوما بيوم -حتى لا نقول لحظة بلحظة- في ليبيا وسوريا واليمن والبقية آتية بإذن الله.
لنثق إذن في خيارنا الديمقراطي ولنقبل بكل وعي بنواقصه وعيوبه وحتى بأخطاره، لأنها ثمن بخس لأثمن ما يطمح له إنسان ومجتمع: الكرامة للمواطن والسيادة للشعب والشرعية للدولة.