باريس 17-6-2023
أيها الإخوة والأخوات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بِاسم مؤسسة محمد مرسي للديمقراطية، وباسميَ الخاص، أرحب بكم أشدّ الترحاب في هذا اللقاء الذي يجمعنا اليوم بمناسبة الذكرى الرابعة لاغتيال أول رئيس تمّ اختيارُه -لأول مرة في تاريخ مصر-من عامة الشعب بصفة سلمية، ليحكم البلاد: الرئيس الشهيد محمد مرسي.
اسمحوا لي أن أبدأ بالترحّم على روح الشهيد وأرواح كل شهداء نضالاتنا المستمرة منذ أكثر من قرن، ضد الاستعمار الخارجي وضد الاستعمار الداخلي.
كذلك أودّ -وأعتقد أنني أفعل ذلك باسمكم جميعا-أن أتقدّم بخالص المحبة والتعاطف لأسرة الشهيد، التي دفعت ولا زالت تدفع ثمنا باهظا لنضال رجُلٍ ضحّى بالغالي والنفيس من أجل القيَم والأحلام والمشاريع والآمال التي تجمعنا اليوم حول ذكراه الخالدة.
أيها الإخوة والأخوات
ليس من باب المبالغة القولُ إننا نلتقي اليوم وشعوبُنا وأمتُنا لم تعرف في تاريخها المعاصر فترةً أشدَّ قتامةً وصعوبة ووَجَعا من التي تعيشها هذه السنوات الأخيرة، والكوارثُ تتتالى عليها بتسارعٍ وتفاقمٍ، وكأن لها نيةَ تصفية أمةٍ غسل الله منها يديه كما يقول القباني.
فشعوبُنا في السودانَ وسوريا واليمنَ وليبيا وفلسطينَ، تعاني الأمرَّين من حروب طاحنة أعلنَتها عليها قِوى الشرّ المنفلتة من كل رادع سياسي أو أخلاقي؛ وشعوبُنا في مصرَ وتونسَ ولبنانَ والعراق تَغرق في الخصاصة والفقر؛ وأهلُنا في الجزائر والمغرب يعيشون على حرب إعلامية تُغذّي الكره والخوف وقد تُعِدُّ -لا قدّر الله-لحرب طاحنة كالتي نشاهدها بين شعبين شقيقين في روسيا وأوكرانيا.
كيف لا نشعر بأشدّ أنواع الألم ونحن نشاهد في تونس عودةَ الانتحار بالنار، وكم من بوعزيزي اليوم لم يعد يلتفت إليه أحد؟
كيف لا نشعر بأشد أنواع الألم ونحن نرى شهداء وجرحى الثورة منسيين مُهمَلين بلا ذكرى ولا علاج أو تعويض؟
كيف لا نشعر بأشدّ أنواع الألم ونحن نرى سجون تونس ومصر مكتظة بالوطنيين الصادقين، وأولئك الذين يسجنونهم ويحاكمونهم ويوزعون شهادة الوطنية، أقوامٌ لم يحرّكوا إصبعا أيام النضال ضد الاستبداد؟
كيف لا نشعر بأشدّ أنواع الألم والفُجّارُ الذين دمّروا شعوبنا وأوطاننا وأحلامَنا يَشمَتون في ثوراتٍ هُم مَن أجهضوها ويحتفلون بكل وقاحة بانتصارهم على شعوبهم؟
حدِّث ولا حرج عن مُعاناة ملايين العرب اللاجئين داخل وخارج أوطانٍ لم تعد الأرضَ التي نهرب إليها، إنما هي تلك التي نهرب منها.
إنه زمن الرويبضة بامتياز.
تعرفون جميعًا الحديثَ النبويَ الشريف “سيأتي على الناس سنوات خدّاعاتٌ، يُصَدَّق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”.
قال البياتي:
من أين يأتي النور؟
ونحن في كل العصور حجر الطاحون
نستبدل الأغلال بالأغلال في الطابور
يبيعنا الطغاةُ للطغاةِ والملوكُ للملوك
نعم، من أين سيأتي النور، خاصة هذه الأيام ونحن لم نعرف في تاريخنا المعاصرِ فترةً أكثر ظلاما؟
الجواب طبعا، مِن مواصلة نضال أبطال ثورات الربيع العربي، الأحياءِ والأموات، الأسوياءِ والجرحى وأيقونتهم الرئيس الشهيد محمد مرسي.
اسمحوا لي هنا أن أكون صريحا. لا أكره شيئا قدرَ خُطَب التأبين في الجنازات، إذ أتصوّر كل مرة روح الفقيد تسخر من هؤلاء البشر الذين يملؤون فمه وهو ميّتٌ بكل شجيرات العنب، والحالُ أنهم رفضوا له وهو حيّ حبةَ عِنب واحدة.
حتى لا تسخر مني روح الفقيد التي أتصور أنها ترفرف الآن بيننا، لن أنخرط في مثل هذه الخطب. إنني أحبّ محمد مرسي لا لأنه كان معصوما من الخطأ وإنما لأنه كان إنسانا بأتمّ معنى الكلمة، أي بكل ما تحيل إليه الكلمة من هشاشة وضَعف ومن صلابة وقوة.
بخصوص الهشاشة والضَّعف، أنا أعرَفُ الناس بأخطاء الرئيس الشهيد، لأنها كانت بالضبط أخطائي، وبصفة عامة هي أخطاء ونقاط ضَعف كل الثوريين الديمقراطيين السلميين الذين أيقظوا العالم سنة 2011 على هدير انفجار البراكين العربية.
أخطأنا جميعا عندما لم نقدّر خطورة الدور التخريبي لإعلام العار، عندما لم نقدر خطورة أزلام النظام القديم ورفضَهم لأي مصالحة حقيقية، عندما لم نقدر خطورة الفيتو الإقليمي والدولي على أيّ خُطوةِ تَحرُّر لشعوبنا وأمتنا.
تباينت الأخطاء أيضا حسب الأوضاع المحلية، ومنها خطأ الرئيس الشهيد عندما لم ينتبه لخطورة الأفعى التي احتضنها، للكائن الذي خدعه بالتمسكن والتذلل والنفاق والتديّن الكاذب، والذي سيُنَكِّل به أشدّ تنكيل، مُظهرا فقدانه للحدّ الأدنى من الشهامة التي عَلَّم العالمَ قواعدَها صلاحُ الدين تحت اسم الفروسية، وهي أن الشخص النبيل لا ينتهك كرامة حتى ألدّ الأعداء وقد سقط من صهوة الجواد.
لكن محمد مرسي هو أيضا وخاصة الإنسانُ في أعظم تجلياته. هو أعطى بصبره، بثباته، بصلابته، بشجاعته، بمقاومته كلَّ أشكال التحطيم النفسي، بتضحيته بحياته، أروعَ الصور لما يَقدر عليه الإنسان عندما تتجلّى فيه أنبلُ القيم، التي تبخرت كلُّها لدى جلاديه.
محمد مرسي ليس قدوة أخلاقية فحسب، إنما هو ركن من أهمّ أركان المدرسة السياسية العربية الجديدة، التي تواصل أحلام ومشاريع الأجيال لتحرير الإنسان والشعوب والأمة العربية.
هو الذي غرس بأقواله وممارسته للحكم، الأفكارَ التي يجب أن تتشبّع بها الأجيال الجديدة: أن الشرخ الفاعل في السياسة اليوم لم يعد بين الإسلاميين والعلمانيين، إنما هو بين الديمقراطيين والاستبداديين؛ أنه لا خلاص إلا بإنهاء حكم الفرد والأجهزة وببناء دولة القانون والمؤسسات؛ أنه لا طريق غير النضال السلمي… والتمسكِ بهذا الخيار على كل ما فيه من أخطار ونواقص، خاصة في هذا الظرف الذي بلغ فيه العنف أعلى درجاته في مجتمعاتنا المنكوبة.
هذا هو الطريق الطويل الخطير الصعب المفتوح أمامنا على كل الآلام وكل الآمال.
يجب ألا يكون لدينا أيُّ وهم، فالصعوبات الخارقة التي ستعترضنا ستتزايد بعد كل خطوة.
– يجب ألا نخطئ مرة أخرى في تقدير شراسة الأنظمة الفاسدة المفسدة في الدفاع عن سلطتها وسرقاتها ولو أدى ذلك لتدمير الوطن وتشتيت الشعب كما حدث في سوريا.
– يجب ألا نخطئ في تقييم سياسات الأنظمة الديمقراطية الغربية ودعمها للدكتاتوريات العربية. ليس غريبا قَبولُها البارد لثوراتنا الديمقراطية وتأييدها الدائم للأنظمة المستبدة العميلة، فقد اختارت هذه الأنظمة السياسات قريبة المدى ولو كانت منافية لمبادئها ومصالحها على الأمد البعيد. وليس غريبا ما نراه اليوم من مُسارعتها لإنقاذ الدكتاتورية العسكرية في مصر والشعبوية في تونس من الإفلاس المالي، وهي بما تصب فيهما من أموال مِثل الذي يسقى الرمل ويزرع السبخة ويحرث في البحر مُمَنيا نفسه بحصاد ثمين. فليتمتعوا بمثل هذا الحصاد، سيكون على قدر خطأ سياساتهم وضربها لمصالحهم وقيمهم في نفس الوقت.
– يجب ألا نخطئ في تقدير درجة الإنهاك والإحباط التي وصلت إليها شعوبنا وهي تغرق في الخصاصة والفقر وعدم الاستقرار، في ظل تعاظم أخطار تغيير المناخ، مما يعني أن مشاغلها قريبا ستكون الماء والخبز والأمان تجري وراء أي دجال يمنيها بهذا ولو على حساب الحرية والكرامة
– يجب ألا نخطئ في تقدير خطورة الفيتو الإماراتي، الإيراني، الإسرائيلي، السعودي، الجزائري الروسي، على أي عودة لحراك الشعوب العربية لبلورة شعب المواطنين من شعب الرعايا الذي خلقوا بتعليمهم واعلامهم وقمعهم …. لبناء دول ديمقراطية تضع حدا للفساد الذي دمروا به الاقتصاد والقيم الضرورية لحياة أي مجتمع …لقيام اتحاد الشعوب العربية الحرة الذي لا تبنيه إلا الديمقراطية ومن ثمة عودة العرب للتاريخ واستعادة المكانة التي هي مكانتهم الطبيعية كأمة عظمى في عالم لا مكان فيه للأقزام.
السؤال: من أين سنستمدّ القوة لمواجهة هذه التحديات الضخمة لتحقيق مشاريعنا الضخمة الثلاث؟
أقول، مِن انغماسنا في الزمن الطويل، فالحربُ ضدّ الآفات الثلاث التي ابتُليَت بها البشرية نفسُها -أي الاستعباد والاستعمار والاستبداد-استغرقت أجيالا وأجيال.
أقول، من الفشل الحتميّ البيّن للثورة المضادة، التي ليس لها من الحلول إلا التي تُفاقم مشاكلها حتى لحظة انهيارها الحتمي.
أقول، من حميّتنا ومن إصرارنا ومن عنادنا أسوةً بحمية وإصرار وعناد محمد مرسي، وأيضا لأننا مكلّفون بمهمة مقدسة تجاهه وتجاه كل شهداء وجرحى ثوراتنا.
إن أفظع ما يحدث لهؤلاء الأبطال ليس الموتُ أو الإعاقةُ مدى الحياة، وإنما أن تكون تضحياتهم ذهبت سُدًى أو حتى أنها كانت أداة أعداء الثورة الديمقراطية السلمية للوصول للحكم ومواصلة الفساد والإفساد.
لهذا لا واجب لنا أكثر إلحاحا من إثبات أن تضحياتهم لم تذهب عبثا ولا قدّر الله لم تكن في مصلحة جلاديهم.
على ذكر هؤلاء، خاصة جزار سوريا ومنقلب تونس وانقلابي مصر وكل الذين احتفلوا بانتصارهم على الديمقراطية؛
صدقوني أنا أعرَف الناس بمن هم هؤلاء الطغاة الذين وصفهم قبلي عبدُ الرحمان الكواكبي أحسنَ وصف. أعرفهم أصدقَ المعرفة لأنني درَست تاريخ الكثير منهم، وقاومت بعضَهم سنينَ وعقودا، وجلست مع بعضهم لحديث حذِر، وتفحصت بعضهم في القمم التي شاركتُ فيها كما يتفحص عالِم الطبيعة حيوانات خطيرة نادرة وضعَتها الأقدار تحت إمكانية المراقبة المباشرة.
صدقوني إن قلت لكم إنني لا أشعر تجاه هؤلاء الطغاة لا بكره ولا بإرادة انتقام، وإنما بكثير من الحسرة على كل ما يكلفوننا بأخطائهم، وبما لا يقلّ من… الشفقة، نعم من الشفقة لأنني أعرف أن عقابهم انطلق آليا مع انطلاقهم في الجريمة، وأنه أشدُّ عقاب.
أنتم تعيشون على الأمل، أما هم فينامون ويصبحون على الخوف… الخوفِ من افتضاح سرقاتهم وجرائمهم… الخوفِ من اكتشاف تفاهتهم وفراغهم الفكري والروحي… الخوفِ من أقرب الناس إليهم، أولئك الذين يعرفون عنهم كل الأسرار والذين قد ينقلبون عليهم في أي لحظة… الخوف من القتل، من الثورة، من الوقوف أمام قضاة الأرض، وبالنسبة لمن لم يمت لديهم كل إحساسٍ الخوفُ من الوقوف أمام قاضي السماء، الذي يُمهل ولا يهمل… أنتم تنعمون بالنوم وهم لا ينامون إلا بصعوبةٍ كلَّ ليلة، لا يعرفون أيّ ليلة سيُوقَظون بطَرقٍ خَشِنٍ على الباب يُنْبِئُهم بانتهاء المسرحية.
هم يسخّرون بيادقهم وأدواتِ التضليل طولَ الوقت لإقناع أنفسهم قبل الآخرين أن الشعب يموت في حبهم وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن الاحترام والحب الذي يتسوّلون لا يأتيهم إلا من خائف أو طمّاع. أما الاحترام الحقيقي الذي يحظى به الرئيس مرسي وأمثالُه من الرؤساء الديمقراطيين الوطنيين غيرِ الفاسدين، فهو احترام لا يَقدرون على الحصول عليه ولو صرفوا كل أموالهم المسروقة ووظفوا كل ما يوجد على الأرض من مرتزقة الصورة والقلم.
لذلك أقول، إنهم جديرون بالشفقة، ولو أن عليهم تحمّل مسؤولياتهم كاملة فيما ارتكبوه ويرتكبونه من جرائم في حق شعوبهم وفي حق خيرة رجال ونساء هذه الشعوب وحتى في حق أبنائهم وبناتهم، وأحفادهم الذين لن يفاخروا بهم يوما كما يفاخر اليوم وغدا أبناءُ وبناتُ وأحفادُ محمد مرسي بشهيد الوطنية والديمقراطية.
ما أبعدهم عما يمثل الرئيس الشهيد محمد مرسي وكونه خير ما في السياسة بما هي نضال من أجل المبادئ والمصلحة العامة وهم لا يمثلون إلا أحقر بما في السياسة بما هي تحقيق أخسّ المصالح غير المشروعة لحفنة من الأفراد وذلك بأشد الوسائل ظلما وقسوة ولا إنسانية.
لهذا أردد دوما لمن يأتيهم الإحباط طال عليهم الطريق نحو التحرر، ربحوا معركة وسنربح الحرب إن أجمل تعريف للوطن هو الذي يقول إنه الأرض التي ورثناها من أجدادنا واستلفناها من أحفادنا.
فإلى الأمل وإلى العمل حتى يفاخر بنا أحفادنا كما نفاخر اليوم بأجدادنا.
ولا بد لليل أن ينجلي