حوار مع الوطن القطرية
الاثنين 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013
عرض مباشر : الرابط
كانت السماء التونسية تعزف «سيمفونية العطاء» وتهطل بأمطارها وخيرها، عندما تلقيت اتصالا هاتفيا من المستشار الإعلامي لـ «رئيس الجمهورية» أبلغني فيه أن موعدي مع الرئيس الدكتور «منصف المرزوقي» تم تحديده في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي «الجمعة».
في ذلك المساء التونسي الماطر بغزارة لم تكن الأجواء التي سبقت « أنشودة المطر» حبلى بالغيوم، بل على عكس ذلك كانت الساحة السياسية – ولا تزال – غارقة في الهموم، ولم يكن هناك أي مظهر أو مؤشر في سماء تونس يؤشر إلى أن العاصمة تعيش مخاضا، وأن سماءها «الصافية» تستعد لولادة المطر!
.. ووسط حرارة الأجواء التونسية سواء السياسية منها أو الطبيعية انقلب كل شيء رأسا على عقب فجأة، ففتحت السماء خزائنها، وسكبت أمطارها بغزارة، في « حوار» صاخب بينها وبين الأرض، لايقل في صخبه عن « الحوار الوطني» التونسي، مع فارق وحيد أن الحوار الأول جاء نديا «مبللا» بالماء، في حين أن الحوار الآخر يسعى لمنع انزلاق تونس إلى مستنقع الدماء.
.. في صبيحة اليوم التالي، وقبل ساعة من الموعد المحدد حضر إلى مقر إقامتي في الفندق «كادر أمني» من رئاسة الجمهورية، ليصطحبني إلى «قصر قرطاج»، وانطلقت بنا السيارة عبر «حلق الوادي» وهو لســان بري يـمـتـد من العـاصمة داخل «البحيرة» في اتجاه ضاحية «سيدي بوسعيد».
.. كــان المشــهد يبـــدو أمامي مثل كتاب مفتوح، وعلى امتداد الطريق كنت أستعرض في ذاكرتي عناوين الكتب التي أصدرها
«المنصف المرزوقي» ومنها على سبيل المثال لا الحصر، كتابه الذي يحمل عنوان «عن أية ديمقراطية تتحدثون»، وكأنه يجسد بهذا الإصدار تفاصيل اللحظة التونسية الراهنة، بكل تعقيداتها التي تطفو على سطح الساحة السياسية.
..وعندما وصلنا إلى ضاحية «قرطاج» وقفت بنا السيارة أمام بوابة القصر «الرئاسي» وكانت «كلمة السر التي لها مفعول السحر، هي «الشعانبي 20»، لأنها بمجرد أن نطق مرافقـنــا بها موجها كلامه لحراس القصر، انفتحت لنا البوابة، فدلفنا بسيارتنا، وكــان الطريــق متعرجــا، يلتوي
يميــنا ويســارا من أعلى الهضبة إلى أسفلها، وهي الربوة الخضراء المؤدية إلى داخل القصر المطل على البحر.
عندما تقف في مواجهة مدخل «الجناح الرئاسي» تشعر أنك تواجه بوابة «قصر الحمراء»، حيث الطراز المعماري لايختلف عن ذلك القصر الأندلسي.
.. وبمجــرد انطـلاقــة الخطوة الأولى في صالة «القصر الرئاسي» شعرت أنني ســألتقي بـعــد لحظــات واحدا من «ملوك الأندلــس» لدرجة أن جـدران المكـان تكاد تنشــد «الموشحات الأندلسية»، وتنشد بقصيدة «جادك الغيث إذا الغيث همى.. يا زمان الوصل بالأندلس» للشاعر لسان الدين بن الخطيب.
وقبل أن أغفو فــي ذلك «الحلم الأندلسي» جاء المسـتـشـار الإعلامي الأستاذ محمد هنيد «الذي يعتــبـر واحدا من أكثر المحبيـــن لـ «قطر»، المدافعيــن عنها داخل تونس وخــارجهـــا، ليرافـقــنـا إلى «مكـتب الرئيـس»، ولم تســتغرق خطواتنــا باتجاه مقر «سيد القصر» سوى لحظات معدودات، حتى كنا في مواجـهــة قاعـة يرتفع فوق مدخلها اسم «ابن خلدون» – وهنا عادت بي الذاكرة إلى الوراء، حيــث أيـام عز العرب، وتذكرت على الفور مؤسس «علم الاجتماع» «عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي» المعروف بـ «ابن خلدون»، المولود بتونس عام 1332، وصاحب المصنفات الكثيرة في التاريخ والحساب والمنطق، وأشهرها «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، وهو يقــع في «7» مجلدات، وأولهـــا المقدمــة المشـهورة بـ«مقدمة ابن خلدون» – فدخلنا عبر هذه القاعة لنجد فخامة الرئيس التونسي الدكتور «منصف المرزوقي» واقفا، متأهبا ، لاستقبالنا، بشكل يعكس تقدير فخامته للقطريين.
وهنا لفتت نظري مجموعة من الصور داخل مكتب فخامته، لمجموعة من العظام والكبار، منهم على سبيل المثال، صورة أول رئيس لتونس الحديثة الحبيب بورقيبة (3أغسطس 1903-6 ابريل 2000) وصورة لـ «أبو القاسم الشابي» الملقب بـ «شاعر الخضراء» (24 فبراير 1909-9 أكتوبر 1934) صاحب القصيدة الشهيرة التي ما زال يتغنى بها الجميع «إرادة الحياة» والتي يقول فيها (اذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر/ ولابد لليل أن ينجلي.. ولا بد للقيد أن ينكسر)، وصورة محمد البوعزيزي (29 يناير 1984 – 4 يناير 2011)،الذي يلقب بـ «مفجّر ثورة الياسمين» الذي أضرم النار في نفسه 17 ديسمبر 2010، فقامت الثورة التونسية.
..وبعد الترحيب الحار المعهود من التونسيين بضيوفهم، تجاوزنا مرحلة السلام وانطلقنا في دهاليز الكلام المباح، لنفتح ملفات كثير من القضايا «المسكوت عنها»، فجاءت الحصيلة، هذا الحوار الصحفي الذي ناقشنا خلاله مختلف زوايا المشهد التونسي بوضعه الراهن، وإطاره الواهن..
وإليكم التفاصيل:
فخامة الرئيس اسمحوا لي أن أبدأ حواري الصحفي معكم، انطلاقا من مراجعة الملف التونسي الدامي، وهو ملف الإرهاب، الذي يلقي بثقله، وأثقاله وظلاله القاتمة على المشهد الوطني.. فكيف تقرأون خبر التفجير الانتحاري في سوسة، والذي يمثل تطورا نوعيا في العمليات الإرهابية، باستخدام الأحزمة الناسفة؟، وما انعكاساته على الأوضاع الداخلية، وعلى أدائكم كرئيس للجمهورية؟
(يضع راحة يده اليمنى فوق سقف اليسرى، ويضعهما على صدره) قائلا:
والله هي مستويات عدة.. أولا على المستوى الإنساني لهذه القضية، عندما أتذكر هذا الشاب الذي لا يتجاوز عمره 18 عاما، أتساءل ما هو الطريق الذي أدى به إلى هذه الموتة البشعة، وهو يعتقد أنه يدافع عن قضايا نبيلة، أو قضايا إنسانية، فما الذي وقع حتى نصل إلى هذا الموت، والذي أعتبره موتا عبثيا، والذي بطبيعة الحال يخلف، كثيرا من المآسي، مأساة عائلة، ومأساة أمة.. إذن فهو بالنسبة لي، ومن وجهة نظري يمثل مأساة إنسانية، أن يموت الإنسان بهذه الكيفية البشعة، وعبثا، وأن يكون كثير من أمثاله، دخلوا هذا الوهم الخطير، يعني أن يكونوا مستعدين للقتل، والتضحية بأنفسهم من أجل أفكار لا قيمة لها، والتاريخ أثبت ضحالتها، مستعدين للموت وللقتل عبثا، من أجل قضايا وهمية، مستعدين للموت والقتل عبثا، من أجل ايديولوجية لم يفهموها، وربما (وهذا هو الشيء الخطير) يموتون ويقتلون عبثا من أجل مصالح قذرة تحركهم من وراء الستار، وهم يعتقدون أنهم يشتغلون لمصلحة الدين، ولمصلحة الله، ولكن هم لا يشتغلون إلا لمصلحة فئة قاتلة، وهذه الفكرة الأولى..
الفكرة الثانية، أنه رغم كل شيء، فعندما تقع أشياء مثل هذه، وعندما يموت لنا شباب غرقا، أو في الهجرة، أو غير ذلك، فهذا دليل على فشل المجتمع، سواء كان فشله التربوي، أو فشله الديني، حيث لم يعط للناس القيمة الحقيقية للدين، وأضف إليه أيضا الفشل الاقتصادي، وتلك ظواهر، يجب أن تعيدنا إلى التوقف والتساؤل عما فشلنا فيه؟، ويجب أن نراجع أنفسنا حتى لا تحدث مثل هذه المصائب الكبرى، فهذا على مستوى التفكير الإنساني والتحليلي، أما عندما أفكر على المستوى السياسي، فثمة قوة هناك الآن تصر على أن تفشل الانتقال الديمقراطي في تونس، وهي مستعدة أن تستمر في فعل كل شيء من أجل تحقيق ذلك، وأنه كلما اقتربنا من حل سياسي، نفاجأ بعملية إرهابية، الأمر الذي يعني أن هناك مخططا، وهناك قوة شريرة تستخدم هؤلاء الشباب، وهؤلاء المساكين، ونحن نتحدث هنا كرجل سياسي، ينبغي أن تكون لدينا من القدرات للرد سياسيا، وكذلك أمنيا على هذه الظاهرة، ثم بعد ذلك يجب أن تكون لنا رؤية اجتماعية، وتربوية، ودينية، الخ، بحيث نحجم من كل هذا.
بورقيبة زعيما
فخامة الرئيس، في إطار الحديث المتصاعد الدائر عن الإرهاب في بلدكم، فإن مفتي تونس الجديد، قد اتهم الرمز الوطني الراحل (الحبيب بورقيبة)، بأنه ساهم في تشجيع الإرهاب، من خلال قوله (أفطروا لتقووا على أعدائكم)، وعندما نزع الحجاب عن المرأة، وعندما أغلق جامع الزيتونة في وجوه طلبة العلم، فهل تتفقون معه في ذلك؟
اعتدل في جلسته ليرد بنبرة فيها من الحزم والحسم قائلا:
طبعا لا أتفق مطلقا في مثل هذا.. فالزعيم (الحبيب بورقيبة) كانت عنده توجهات علمانية واضحة، ولكنه كان رجلا وطنيا، وكان يعتقد صراحة (من وجهة نظره)، أن الدين ممكن أن يكون عنصر تخلف، أو بعض الممارسات قد تؤدي إلى تخلف المجتمع، ولكن أن نجعله هو نواة الإرهاب، فهذا الكلام غير صحيح بالمرة، وإنما النواة الحقيقية للإرهاب من الممكن أن أقولها لك، وتتمثل في أن هناك، يوجد الفقر، والحرمان، والتهميش، الذي عانت منه كثير من قطاعات المجتمع، أضف إلى هذا وذاك أن هناك ظاهرة التحريض الديني، والذي تمارسه بعض الفضائيات والقنوات التليفزيونية منذ سنوات طويلة، وهي لا تبرز من الإسلام سوى الوجه أو الجانب الأكثر تشددا وتزمتا، ناهيك عما هنالك من عوامل خارجية، مثل الحرب على أفغانستان، والتي أثارت حفيظة وحساسية كثير من الشباب، الذين نظروا إليها وكأنها حرب ضد المسلمين، ومن ثم فهي حرب على الإسلام، وبالتالي لنتساءل: هل هذه هي جذور الإرهاب الحقيقية؟، ولكن أن نضعها ونحملها على زعيم سياسي، وإن اختلفنا معه، فإنني أجد خطأ كبيرا في هذا.
الشهيد بلعيد
فخامة الرئيس، مازلنا نتحدث عن الإرهاب، الذي كان الشهيد شكري بلعيد، واحدا من ضحاياه، ويرى كثيرون أنه دفع ثمن عدم التزامه بنصائحكم، وتحذيراتكم له بأنه مستهدف بالاغتيال، وأنه رفض توفير الحماية له.. فما مدى صحة ذلك؟
(نظر لي وعيناه تلمعان، ويشير بالسبابة) قائلا:
لا.. هذا الكلام ليس له أي أساس من الصحة تماما، لأنني سبق وقد استقبلت الشهيد شكري بلعيد في إطار استقبالي لكل زعماء المعارضة، وجاء أكثر من مرة لهذا المكان، وجلس في ذات المقعد الذي تجلس أنت عليه الآن، وكان الحديث دائما له من الشجون، ويدور في الأساس حول إكمال المسار الدستوري، وكذلك التوافقات السياسية، ولكنني شخصيا وبالذات ما كان لي أن أتصور أنه من الممكن أن يتم استهدافه، أو أن يتعرض لحادثة اغتيال، ولكن (ربما وهذا صحيح)، أنه بعد وقوع حادث الاغتيال هذا، طلبت وضع كثير من الرموز والقيادات السياسية تحت الحماية، لأنني كنت أخشى عليهم، ومن ضمنهم شخص يوجه لى دائما (السباب)، رغم ذلك أقوم بتوفير حماية له من قبل أفراد الحرس الجمهوري.
شائعات وأكاذيب
ولكن.. عفوا فخامة الرئيس، هل يعني كلامكم أنكم قبل اغتيال بلعيد لم توجهوا له أي رسائل تحذيرية؟
(سريعا وقبل أن أنتهي من الحروف الأخيرة لسؤالي، وإذ به يعاجلني بنبرة ارتفعت فيها حدة صوته) قائلا:
طبعا لا، والسبب أننا كنا أبعد من أن نتصور أن يكون هناك خطر من هذا القبيل، وقد فوجئت بما خرج لاحقا من شائعات وأكاذيب كثيرة، تردد أنني عرضت عليه توفير الحماية الأمنية له وهو رفض هذا، أو أنه قد حدث نوع من المقايضة لحماية زوجته (بكذا)، ولكن كل هذه أكاذيب وشائعات.
صدور عارية
فخامة الرئيس.. خارج إطار الأكاذيب والشائعات، دعني أسألكم عما ينسبه البعض للحكومة بتحميلها مسؤولية تنامي ظاهرة الإرهاب، وتردي الأوضاع الأمنية؟
هذا الكلام مردود على أصحابه، لأن الحكومة هي التي تأخذ على عاتقها المسؤولية كاملة، وتقوم بمجهودات كبيرة، ودور رئيسي في إعطاء الجيش والأمن (وهنا أقصد الرئاسة والحكومة كلها)، ودعني أصارحك، فنحن حينما جئنا لهذه السلطة، اكتشفنا أن «واحدا على عشرة» من الحرس الوطني، الذين لديهم الصدر الواقي من الرصاص، الأمر الذي يعني أنه لم يكن هناك أدنى تجهيزات لأفراد الأمن، ولا حتى تدريب لهم على مواجهة الحرب ضد الإرهاب، بينما الآن فإن الجيش والأمن أصبحا من أولوياتنا، وكم تمنينا بطبيعة الحال لو أننا وضعنا هذه الأولويات في الأمور الاقتصادية، ولكن ليس أمامنا خيار آخر.. إذا فهذه الحكومة على عكس ما يقال عنها، وهي التي تتصدي بكثير من الحسم، والقوة، لتعطي كل الإمكانيات لأجهزتها لمقاومة الإرهاب، بينما قبل هذا لم يكن لنا بهذا أي شأن، حيث ترك هذا الموضوع، وأهمل تماما، ونحن قد فوجئنا بمثل هذا الموضوع الذي يقع.
العفو الملغوم
فخامة الرئيس، أتمنى ألا يفاجئك سؤالي الذي يدور حول حقيقة ما يقال، أنه من خلال العفو الرئاسي الصادر منكم بحق بعض المساجين، قد ساهمتم بشكل مباشر في خروج عدد من العناصر الإرهابية من السجون، والتي عادت لتمارس نشاطها مجددا، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر (محمد الجنيبي)، المتورط في أحداث مجموعة سليمان؟
(يلتفت لي وهو ينظر بدهشة، كأنها ومضة عتاب) قائلا:
أنا لست في حاجة للتذكير بأن العفو التشريعي العام قد صدر عام 2011، أي من قبل أن أكون رئيسا للجمهورية، وبالتالي فإنه لا يمكن لأحد أن يحسب هذا عليه، ومع ذلك فإن الحديث عن أن العفو الرئاسي، يتسبب في خروج المتشددين إلى المجتمع، إلى آخره، فإنني أجده يدخل ضمن نوع من الحملات السياسية وليس له أي أساس من الصحة، أولا، لأن العفو هذا يمثل عادة من عادات النظام السياسي في كل بلدان العالم، وثانيا، أن مثل هذا العفو يتم وفقا لمقاييس تحددها وزارة العدل، وأن الأسماء يتم وضعها من قبل وزارة العدل، وعن طريق لجنة مختصة، ثم تأتي لي للتوقيع عليها فقط، وأنا سأواصل السير على طريق هذه السنة الحميدة، لأنه لولا أن وجدت هذه السنة، بأن يقع العفو على السجناء، استحالت إدارة السجون، وتصبح غير قابلة للتحكم فيها، طالما فقد الناس الأمـــــل في أي عفــــو، وبالتالي فإن المشرع التونسي وضع آلية هذا العفو حتى يعطي المساجين بارقة الأمل، بأن المسجون الذي يتصرف وفقا لحسن السير والسلوك، والمسجون الذي قضى أكثر من 20 عاما في السجن، لا سيما وأنه أحيانا يكون هناك من السجناء الذي تم سجنه ظلما في قضية ما، وبالتالي فإنه كان من الضروري أن يكــــــون هناك مثل هذا التنفيس الذي يعطي السجين نوعا من الأمل، ولا يتحول إلى قنبلة موقوتة، ولكن مرة أخــــرى أعود للتذكيـــر والتأكيد في نفس الوقت على أنني سأستمر في نفس المسار، والتوقيع على مثل هذه الوثائق التي تأتيني بها وزارة العدل جاهزة، مع مراعاة بأنه لا دخل لي بأي تسمية، كان اسمه عفوا هذا أو غيره فلا دخل لي.
عسكرة المدن
فخامة الرئيس، بعيدا عن قوائم السجناء الذين تم الإفراج عنهم، فقد أصدرتم عددا من القرارات بتحويل بعض المناطق إلى عسكرية، فما هي مخرجات العمليات الدائرة هناك؟
يفتح يديه الاثنتين قائلا:
شوف فيما يتعلق بالمناطق العازلة، فنحن قد قمنا بعمل مناطق عازلة في الصحراء لأن إشكاليتنا الكبرى الآن هي قضية تهريب السلاح، وبالتالي فإنه لابد أن يكون هناك للجيش كل السلطة في السيطرة على المنطقة العازلة حتى لا يمكن أن يكون للمهربين القدرة في استغلالها كمنافذ لتهريب السلاح، وكذلك فإن هناك مناطق، والتي تسير فيها مثل هذه العمليات العسكرية، قد تم تحديدها بمنتهى الدقة، ولفترة وجيزة من الوقت، أي أن الجيش لم يكن له القدرة في النزول إلى هذه المنطقة، ودخول المنازل، ومداهمتها، إلا وفقا للقانون، لأن الشيء الذي اتمسك به وأصر عليه، أن تبقى تونس دولة القانون، بحيث انه عندما نفوض للجيش أداء مهمة، فإنها يجب أن تكون وفقا للقانون ومحددة بوقت، حتى لا نسقط في أي تجاوزات لا قدر الله، مع العلم بأنني قد أعطيت تحذيرات وأوامر صارمة بأنه عندما تقع مداهمة، أو يقع تفتيش لمنازل المواطنين، يكون ذلك في إطار حقوق الإنسان، ومنعت منعا تاما أن يقع أي نوع من التعذيب، أو الإهانة، حتى تكون محاربتنا للإرهاب في إطار القانون، وفي إطار القيم، ولو لم نفعل هذا، فإننا سنسقط فيما يريده لنا الإرهابيون، لأننا إذا تنكرنا للمبادئ والقيم التي نؤمن بها، فإنه لاشك ستصبح الحرب حربا قذرة بكل المقاييس، وهذا لن أسمح به.
ديغاج العوينة
فخامة الرئيس، اسمح لنا أن ننتقل إلى محور آخر من محاور حوارنا، ودعنا نتوقف عند كلمة ديغاج التي أطلقت في وجوهكم خلال تأبين شهداء الأمن في ثكنة العوينة، ماذا كان يمثل لكم مثل هذا الهتاف، ألا يعكس العلاقة السلبية بينكم وبين رجال الأمن، أم يعكس تراجع شعبيتكم في الشارع التونسي؟
نظر لي نظرة لا أعتقد أنها كانت « ديغاجية» ورد قائلا:
أولا، ديغاج هذه لم تكن موجهة لي بالأساس، ولا حتى إلى رئيس الحكومة، وإنما بحسب ما سمعنا كانت موجهة إلى قائد الحرس الوطني، وكل العملية التي وقعت أو جرت كانت من أناس خارجين على أوامر قيادة الحرس الوطني، وكانت تريد أن تضغط عليه، فهذا من ناحية، والشيء الثاني، أن الذي وقع في العوينة كان من قبل فصيل صغير جدا من النقابات الأمنية، وهذا الفصيل قد تم اتخاذ قرارات ضده بإحالته إلى المحاكمة، وهنا أعني المحاكمة العسكرية، ثم ثالثا فإن الأغلبية الساحقة من الأمنيين قد تنصلوا، كما وقعت انسلاخات من هذه النقابة التي ارتكبت مثل هذه العملية، كما أن النقابة الكبرى المهمة جاءت هنا إلى هذا القصر وقدمت لنا الاعتذار، وتبرأت مما وقع، وقالت إنها ليس لها أي دخل بهذا العمل المشين.
لعنة خطاب
فخامة الرئيس، من قضايا الداخل دعنا نتوقف عند قضية جدلية أخرى، تتعلق بعلاقاتكم الخارجية، وهي ما ورد في خطابكم بالأمم المتحدة بشأن مطالبتكم بالإفراج عن الرئيس المصري المعزول الدكتور محمد مرسي، ولا شك أن مثل هذا الخطاب أثار العديد من التساؤلات في دوائر صنع القرار العربي، وبالتحديد في القاهرة وفي أبوظبي، باعتبار أنه يمثل تدخلا في الشؤون الداخلية المصرية، فبم تردون على هذا؟
(يرفع بصره للسقف، ويقبض بيده اليسرى على الكرسي، ثم ينظر لي، وفي نبرة واثقة وهو يرد) قائلا:
شوف، أولا، لا تنس أنني قبل أن أكون رئيسا للجمهورية، فأنا مناضل حقوقي، ونحن في حركة حقوق الإنسان، كنا دائما وطول عمرنا ضد المحاكمات السياسية، ونطالب بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وكنت سأبقى, حتى وأنا على مقعد رئاسة الجمهورية، مناضلا حقوقيا، ثم من ناحية أخرى إذا رجعت إلى ما قلت في الأمم المتحدة، فإنك ستكتشف أنني لا أتحدث سواء عن إرجاع مرسي إلى السلطة، ولا حتى الشرعية، ولا حتى عن إعطائي لخريطة سياسية، بل كل ما قلت به فقط، هو الدعوة إلى عودة المناخ السياسي، ووقف مسلسل العنف الخ، يتطلب إطلاق سراح الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وفتح الحوار، وهذه سنة لكل المؤمنين بحقوق الإنسان والديمقراطية، ولهذا أعتبر أن هذا الموقف هو موقف مبدئي، وموقف أخ وصديق يريد الخير لأصدقائه، وأنا شخصيا عندي قناعة بأنه لا شك أن الحوار سيقع، لأنه ليس أمام المصريين من سبيل أو خيار آخر سوى أن يجلسوا على طاولة ليتحاوروا ويتناقشوا، وأن يجدوا حلا سلميا ويتفاوضوا، وأن يسلموا لبعضهم البعض، لأنني لا أرى هناك حلا آخر، وبالتالي فهذا موقفي وأنا متمسك به، ولست مستعدا للتراجع عنه، وهو ليس تدخلا أبدا، ولكن بالعكس، فأنت حينما ترى أخاك، وأهلك في خصومة، فمن واجبك أن تقول لهم يا جماعة نتمنى لكم أن تتصالحوا مع بعضكم البعض، وهنا لا يمكن لأحد أن يسميه تدخلا.
مزايدات مرفوضة
ولكن عفوا يا فخامة الرئيس، بعد الآثار السلبية التي أثارها ما ورد في خطابكم الأممي.. ألم تسعوا لتجاوز تداعيات هذه الأزمة على علاقاتكم مع القاهرة، وأبوظبي أيضا؟
(يلوح بيده اليمنى في الهواء، وترتفع حدة كلامه ) قائلا:
لالا.. ولكن دعني أقل لك شيئا مهما، الاستغراب الكبير كان لنا من موقف الإخوة الإماراتيين، فأنا لم أتحدث عن الإمارات بشيء، وأن هذه القضية تونسية- مصرية، فما دخلكم أنتم يا إماراتيين بهذا الموضوع؟، ونحن نعتبر مصر دولة عظيمة وكبرى وليست بحاجة إلى أي دولة أخرى لتدافع عنها، وإنما هي دولة لها وزنها وحجمها وقادرة على أن تدافع عن نفسها، وبالتالي فأنا أقول: تلك القضية بيننا وبين الأشقاء المصريين، وإذا كان هناك شيء فإننا سنعمل على حله سويا، وبالتالي فليس للإماراتيين أي دخل بهذا الموضوع.
الصديق الصدوق
إذا فخامة الرئيس، بهذا المنطق الذي تتحدثون عنه، أفهم من جوابكم أنكم تقبلون من طرف خارجي مطالبتكم بالإفراج عن رموز النظام السابق الموجودين حاليا في سجونكم؟
استرخى بظهره إلى الخلف وأسند يديه على حافتي كرسي الرئاسة قائلا بثقة واضحة:
طبعا.. نحن إذا جاءني أي صديق أو أي شخص، وقال لي انه ينصحني بأن أفعل (كذا)، ربما يكون من الأحسن للتونسيين، فأنا بالتأكيد سأعتبر أن هذا شيء إيجابي وعلامة صداقة، وربما أخوة ومحبة، وقد آخذ ذلك بعين الاعتبار، وأنا لا أعتبر مثل هذا تدخلا، ولكن إذا جاء لي شخص وقال لي لازم تفعل (كذا وكذا)، وهذا تضعه في منصب (كذا)، فإنني أقول له (قف) هذه أمورنا الداخلية، ولكن أن يأتي لي ويقول من الناحية المبدئية نحن نتمنى، وننصح، ونعتقد أنكم لبعضكم البعض، فهذا شيء مقبول.
تنازع الاختصاصات
ولكن فخامة الدكتور المرزوقي.. طالبتم بالإفراج عن الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، رغم أنكم قمتم بتسليم البغدادي المحمودي للسلطات الليبية، فكيف تفسرون هذا التناقض؟
أولا، لم أكن أنا الذي سلمت البغدادي المحمودي، والجميع يعلم أنه قد صارت أزمة كبرى بيني وبين السيد رئيس الحكومة، وقد أعلنت آنذاك رفضي لهذا التسليم، واعتبرته غير مقبول لا أخلاقيا، ولا سياسيا، بل ورفعت شكوى للمحكمة الإدارية التونسية فيما يختص بقضية تنازع القرار، والمحكمة قد أعطتني الحق، وأنه ما كان يجب على رئيس الحكومة التونسية تسليم البغدادي المحمودي، ضد رغبة رئيس الجمهورية، وقد كانت هذه القضية من بين أكبر الأزمات التي كادت أن تعصف بالترويكا، ولمعلوماتك فإنني في لقاء أخير لي مع السيد أحمد زيدان في نيويورك طالبته أن تقع حماية هذا الشخص، الذي طلب حماية تونس أن تقع معاملته معاملة طيبة، وألا يتعرض لأي نوع من أنواع التعذيب، وأكد لي الأخ زيدان بأن المحمودي يلقى بالفعل معاملة طيبة، إذا هذا يؤكد لك أنني لا أتناقض أبدا مع مبادئي.
ولكن فخامة الرئيس، إجابتكم تلقي بظلال من الشكوك حول هوية صاحب القرار الأول في الجمهورية التونسية، أنتم..أم رئيس الحكومة؟
لا شك أنه وقعت بيننا وبين السيد رئيس الحكومة كثير من النزاعات حول الاختصاصات في بعض المشاكل، وهذا شيء طبيعي في ظل نظام به ازدواجية قرار، فنحن لسنا نظاما برلمانيا، ولا حتى نظاما رئاسيا، بل نحن نظام مزدوج، وقد وقعت من الأخ حمادي جبالي الكثير من المشاكل محل التنازعات، ولكن الحال مع الأخ علي العريض رئيس الحكومة الحالي فإن الأمر مختلف، حيث هناك تنسيق وتعاون أكثر، ولكن مع مراعاة شيء مهم، بأن مثل هذه الأمور تحدث في كل الأنظمة السياسية، والمهم أنه لحسن الحظ بأن كل الخلافات التي وقعت، وخاصة في قضية بغدادي المحمودي، فقد واصلت العلاقات توترها مع الأخ حمادي جبالي، ثم تعلمنا ضرورة التعايش، والحمدلله أن الأمور أحسن مع الأخ العريض.
مطالب انقلابية
فخامة الرئيس الدكتور، اسمحوا لنا أن ننتقل إلى محور آخر، وهو الحوار الوطني، كيف تنظرون إلى خريطة الطريق لحل الأزمة السياسية، وما موقفكم في حال اشتراط المتحاورين، خروجكم من قصر قرطاج؟
ينظر في ساعته، وبعدها يلتفت لي قائلا:
دعني أبدأ من آخر كلامكم، أنه ليس بالضرورة ألا تكون هناك أي توافقات فيعني هذا خروجنا من قرطاج، فثمة حزب وحيد هو الذي يطلب مثل هذا الشيء، ويطلبه بكيفية انقلابية، لأن القانون الذي ينظم السلطات يقول: ان المجلس التأسيسي فقط هو الذي يقيل رئيس الجمهورية، وبالتالي فليس هناك أي تنازعات، وأنا قلت، وما زلت أردد، بأنني لن أسلم السلطة إلا لرئيس منتخب شرعي، وما عدا ذلك فأنا مستمر لأن الشرعية معي، وأنا متأكد أن المجلس التأسيسي لن يذهب في أي عمل غير شرعي، ومؤسسة رئاسة الدولة شرعية، وهذا كلام مفروغ منه، وعلى كل حال بالرغم من أن حركة «نداء تونس» حاولت فرض هذه النقطة في خريطة الطريق، إلا أن خريطة الطريق رفضت الأخذ بذلك، والآن الموضوع بسرعة سيتم تسمية رئيس حكومة (توافقي)، ونحن في الساعات الأخيرة لهذه التسمية، ثم بعد ذلك ندخل في الستة أشهر الأخيرة، نكمل فيها الدستور،، وبحسب الأخ مصطفى جعفر رئيس « المجلس التأسيسي» الذي قابلته الخميس، ربما أواخر نوفمبر سننتهي من الدستور، وسوف نعلن مواعيد الانتخابات، وأنا طالبت أكثر من مرة أن يكون ذلك قبل شهر ابريل، وأقصى تقدير يكون شهر مايو، لأنه بعدهما ستأتي الامتحانات، ورمضان، والصيف، وهذا غير وارد فيه ذلك، وبالتالي لابد أن نكون قد أكملنا الانتخابات إما في شهر مايو أو يونيو، وهذه هي خطة الطريق، ولكن بطبيعة الحال فنحن واجهنا صعوبات، حيث أن قوى الشر التي تريد الإضرار بتونس، الفوضويون من جهة، والإرهابيون من جهة سيواصلون عملهم، وأنه من أجل كسر هذا المسلسل فمن المتوقع أن نشاهد اعتداءات إرهابية أخرى، ولكن تونس حتى الآن مثل الباخرة التي واجهت العديد من العواصف، ولكن ولا أي عاصفة استطاعت أن تغرقها، رغم أن كل العواصف تحاول عرقلة المسار والتأخير، إلا أننا مستمرون حتى نصل إلى المرفأ بسلام بمشيئة الله.
أنصار أفكاري
فخامة الرئيس، رغم أهمية الحوار التونسي بالنسبة لجميع التونسيين بلا استثناء، إلا أنه من الملاحظ أن الحزب الذي تنتمون إليه يقاطع هذه الجلسات، فهل تتفقون معه في هذا الموقف؟
لا أتفق معه في هذا الموقف، وأتمنى أن يكون حاضرا في الحوار الوطني، ولكن.. من الأهمية بمكان الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الحزب مستقل عني، ولم أعد أنتمي إليه، وبطبيعة الحال كان هو الحزب الذي أسسته، ويضم أناسا يدافعون عن أفكاري وأنا أشعر بتعاطف معهم، ولكن تبقى الحقيقة أنه حزب مستقل، فأنا منذ اللحظة التي قبلت فيها أن أكون رئيسا لكل التونسيين، لم أعد أنتمي لأي حزب، وأن هذا الحزب أحيانا يأخذ مواقف، ليست بالضرورة تمثل مواقفي، لأنه حزب مستقل، وتحركه قوى مستقلة، ويجب أن يبقى كذلك.
السفير الأميركي
فخامة الرئيس، كيف تتابعون نشاط السفير الأميركي في تونس، ولماذا لايشملكم باتصالاته ولقاءاته على غرار ما يفعل مع بقية القيادات السياسية؟
لأنني رئيس للجمهورية، رئيس الدولة التونسية، وأنا الذي أطلبه حينما أريده، وقد حدث أكثر من مرة، والعلاقات عادية جدا.
ألا تحسون بأنه يمارس نشاطا، ربما يثير كثيرا من التساؤلات على ساحتكم السياسية؟
(يرد باقتضاب شديد) قائلا:
كل السفارات تقوم بعملها، وهذا شيء طبيعي.
خادم الوطن
سؤالنا الأخير فخامة الرئيس، بالتأكيد أنتم قيمة وقامة كبيرة قبل أن تكونوا رئيسا للجمهورية، ولكن خصومكم وأنا لست واحدا منهم، يرون أن قبولكم بالمنصب الرئاسي المنزوع من الصلاحيات تقريبا، يأخذ من رصيدكم الشعبي، فكيف ترد عليهم؟
أنا الآن في خدمة الوطن، وقد سبق وخدمت هذا الوطن كمثقف، وكمناضل لحقوق الإنسان، وفرصة الآن أن أخدمه في هذا الموقع السياسي، والقول بأنه منزوع الصلاحيات فهو مردود على أصحابه، فأنا في مكان تتخذ فيه كل القرارات المصيرية والهامة في البلاد، والتوافق لعب دورا هاما في تقريب وجهات النظر في العمل على أن تكون كل الأطراف تتحاور، والحوار مفتوح لكل التونسيين، واعتقد أننى ألعب دورا في تهدئة الخواطر، وتقريب وجهات النظر، (في رفع العراك هنا وهناك)، ولذلك أعتبر أنني قائم بدوري في هذه المرحلة الدقيقة الصعبة.
خارج الحدود
ولماذا يقتصر نشاطكم الخارجي على المشاركة في ندوات أو محاضرات، دون أن نرصد لكم زيارات رسمية لدول أخرى؟
على العكس أنا شاركت في كل اجتماعات القمة، الإفريقية، العربية، أميركا اللاتينية، وزيارات لبلدان أفريقية، ومغربية، وبالتالي على العكس.
نشاطكم الخارجي المقبل، هل فيه زيارات رسمية لتوطيد علاقات ثنائية؟
نعم هناك زيارة لباريس للمشاركة، في مؤتمر لليونسكو، وهناك القمة العربية الافريقية بالكويت، وهناك الافريقية في أديس أبابا.
شكرا فخامة الرئيس على سعة صدركم، لتحمل أسئلتنا الصريحة، وتجاوبكم مع استفساراتنا، والتي نقلنا من خلالها تساؤلات الشارع التونسي، ومعه كل المتابعين والمراقبين لما يجري في بلد الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي، والشكر موصول على كرم الضيافة وحسن الاستقبال، مع أمنياتي الصادقة لكم بتجاوز أزمتكم السياسية.