سنة 2017 دعتني جامعة ساوث كارولاينا في الولايات المتحدة، لسلسلة من المحاضرات وندوة ختامية حول الربيع العربي. في هذه الندوة كان عليّ أن أردّ على أسئلة ثلاثة من كبار المختصين في شؤون الشرق الأوسط وبحضور عديد الطلبة. فاجأني أحد “الممتحِنين” بتركيزه على رؤيتي للوضع في سوريا وأسباب قراري سنة 2012 قطعَ العلاقات مع النظام السوري.
بعد انتهاء الندوة فهمت السبب والرجل يقدّم لي نفسه على أنه أخ رئيس سابق لحكومة إسرائيل، وأنه ترأّس الوفد الإسرائيلي الذي كان يفاوض السوريين طيلة عشر سنين لضمان الهدوء على الحدود المشترَكة والبحث عن تفاهم ما بين البلدين.
كنت قد سمعت عن مفاوضات سرّية لكنني كنت أحسبها إشاعات. ها أنا أمام شخص قاد فريق التفاوض لعشر سنوات مع النظام “الممانِع” الذي كان يبيع للشعوب العربية صورةَ آخِر معقل من معاقل النضال ضد الامبريالية والصهيونية. سأذكر ما حييت ضحكته وهو يقول لي: كنا نسخَر من الوفد السوري لمعرفتنا أننا نفاوض دُمًى من السُّنة، ووراء الستار مَن يديرون التفاوض الحقيقي وكانوا كلهم ضباط مخابرات علويين.
لا وهمَ لديّ حول طريقة تلقّي أنصار الدكتاتور السوري لهذه القصة، إذ لن يعوزهم غدا مثل البارحة لا الإنكار ولا التبرير.
*
إلى منتصف السبعينات لم تفارق صورة عبد الناصر مكتبي؛ ثم جاء يوم وضعتُها في أحد الأدراج. كنت قد وصلت لاستنتاجٍ قطعي أنه لا أخطر على مستقبل المشروع الوحدوي من القوميين. أن تكفُر بالقومية لا يعني أن تكفر بالعروبة. لذلك نشرتُ سنة 1984 كتابا بعنوانٍ استفزازي “لماذا سَتَطأ الأقدام العربية أرض المريخ” (متوَفر على موقعي الإلكتروني). بعد صدوره جاءني بعض القوميين قائلين آن الأوان لحزب عروبي في تونس. قلتُ لِم لا، وسأوافيكم بوَرقة حول تصوّري لمبادئ هذا الحزب وأهدافه.
وضعتُ في الورقة براعم الأفكار التي أدافع عنها إلى اليوم:
- معاناة الأمّة لها مصدران: الاستعمار بما هو استبداد خارجي والاستبداد بما هو استعمار داخلي. الاستعمار والاستبداد وجهان لِنفس قطعة النقد، ولا مجال للمفاضلة بينهما. الولاء للأمة وقضاياها العادلة لا لحزب أو زعيم.
- التصدّي للإمبريالية والصهيونية شرطٍ ضروري لكل نظام عروبي، لكنه شرط غير كافٍ ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يغطّيَ على الاستبداد أو أن يكون تبريرا له.
- المَدخل الوحيد لبناء وحدة عربية هو الذي انتهجَته شعوب أوروبا عندما أَسسَت دوَلُها الديمقراطيةُ الاتحادَ الأوروبي على أنقاض الدكتاتوريات النازية والفاشية والشيوعية.
- الأمّة العربية تعدّدية بِطبعها، وتتكون من شعوب عريقة ذات شخصية قوية، ولا بدّ من احترام هذه التعددية مع ضرورة الدخول في حوار مع الأمازيغ والأكراد والمسيحيين شركائنا التاريخيين في حضارتنا العربية الإسلامية لتحيين عقد التشارك بين مكوّنات لها نفس القيمة والحقوق وخارج منطق الأغلبية والأقلية.
- كل عربي هو الممثل الشرعي والوحيد لهذه الأمة، ومن ثمّ فجَسده حرام وحقوقه وحرياته هي حقوق وحريات الأمة بأجمعها. لذلك على كل حزب عروبي أن يكون خادمَ الديمقراطية في كل قطر وحارسَ حقوق الإنسان في كل مكان.
- الأمّة العربية هي أمة تُدافع عن حقوقٍ مشروعَة، على رأسها حقوق آخر شعب مستعمَر في العالم هو الشعب الفلسطيني، لكنها ليست منخرطة في أيّ مشروع ثأر تاريخي أو عداء وراثي مع اليهود أو الغرب، وهي أمّة سلام وتعاوُن مع جميع الأمم.
- المشروع العروبي الجديد هو بِناء دولة القانون والمؤسسات في كل قطر، ثم اتحاد دوَل مستقلة وشعوب حرة تضمن للعرب العيش الكريم وتمكّنهم من تحقيق الهدف الأسمى ألا وهو العَودة بقوة لساحة الإبداع العلمي والتكنولوجي والفكري والفني، مساهمة في تطوّرهم وتطوّر البشرية جمعاء، وذلك بعد طول غياب مَعيب في ميادين كنا يوما روادها.
من يومها لم أسمع بالإخوة الأفاضل إلى أن حصل الانقلاب على بورقيبة ودخلَت تونس ابتداء من 1987 مرحلة الديمقراطية-الديكور. لم أستغرب أن أرى حينها كثير من القوميين ينخرطون في حزب “وحدوي” يتصارعون داخله تحت رقابة المخابرات، التي سهرت على تأسيس حزب ليبرالي وآخر تقدمي وثالث دستوري لتضمن لبن على سيطرته على كل الطيف السياسي.
ثم جاء الغزو العراقي للكويت سنة 1990. كتبت يومها إنه عملية حمقاء ستعود بالوبال على العراق وعلى الأمة بأسرها، وإن أمّ المعارك ستكون أم الهزائم. شن عليّ أنصار صدام حربا لا تقل عنفا عن التي يشنها عليّ إلى اليوم أنصار بشار.
ولما انتفضَت شعوبنا في الموجة الأولى للربيع العربي ضدّ الفساد والظلم والتوريث، وقف القوميون مع القذافي في ليبيا ومع السيسي في مصر وانظر كيف يساندون الدكتاتور السوري حتى بعد نشر الغسيل القذر لعائلته. بالطبع صوّتوا ضدي في كل الانتخابات.
يقولون لك لكن انظر ما الذي حققه الربيع ”العبري ” انظر ثمن هذه ” الثورة”. تقول ومن المسؤول؟ هل ثارت الشعوب لمجرد الثورة أم أنها دُفعت لها دفعا؟ هل كان عليها أن تستسلم إلى الأبد للقمع والفساد والتوريث لمجرد أن أنظمتكم تطلقها صرخة مدوية ضد إسرائيل وأمريكا؟
يقولون لك، لكن ماذا عن الناتو وبرنارد ليفي والمؤامرة الكونية وداعش وتركيا وقطر وكوندليزا رايس والفوضى الخلاقة! فأواصل في ذهني: لا تنسوا غدر سندباد وتآمر علي بابا وخيانة شهرزاد ودعاء جحا عليكم.
*.
إحقاقا للحق لا أحد ينكر أن القوميين نازَلوا الاستعمار والصهيونية منتصف القرن الماضي، وأنهم وفّروا للشعوب ما يفاخرون به إلى اليوم، أي الأمن والتعليم والصحة. كم عرفتُ منهم أيضا من أناس صادقين غيورين أشد الغيرة على أمّتنا، لا يمتّون للقوميين المخابراتيين بِصلة وهو الأمر الذي يزيد في أسفي على ما تردوا فيه من مواقف مخزية نتيجة غياب الشجاعة لمراجعة النفس.
إحقاقا لنفس الحق يجب التذكير بأنهم أسسوا لفساد واستبداد الطبقة العسكرية في مصر والطائيفة في سوريا ودكتاتورية الحزب الأوحد والقائد الملهم وعائلته في العراق وليبيا، أنهم تعاملوا معنا كشعوب من الرعايا لا كشعوب من المواطنين وأنهم يتحملون وزر الثمن الباهظ الذي دفعته شعوبنا للثورة ووزر الثمن الباهظ الذي تدفعه لمقاومة ثورة مضادة يساندونها دون حياء في مصر ليبيا وسوريا وتونس.
تصوروا ذهول عبد الناصر وعصمت سيف الدولة وميشيل عفلق لو قيل لهم النظام المصري الذي يعتبر نفسه وريثا للناصرية سيحاصر الفلسطينيين إلى التجويع في غزة في تنسيق كامل مع الاسرائيليين …. والنظام البعثي في سوريا لضمان تواصله سيشرد نصف الشعب السوري وسيجعل من قلب العروبة النابض محمية روسية-إيرانية. أما النظام البعثي في العراق فسيكون سبب خراب العراق كما سيكون نظام الجماهيرية سبب خراب ليبيا…وبقية القوميين في الأقطار الأخرى سيصبحون العجلة الخامسة للاستبداد وللثورة المضادة لمجرد كرههم لإسلاميين عرفوا هم من أين تؤكل الكتف.
وراء الإفلاس الشامل خطأ وخطيئة.
أما الخطأ فهو عدم الفهم أن قوة الشعوب في قوة مؤسساتها وقيمها واقتصاداتها وليست في كاريزما أو عنف زعيم، أن كل زعيم عربي يري في قطره ”مزرعة ” له ولعائلته ويستحيل أن يسلم فيه إلا إذا وُلّي على كل ” المزارع ” الأخرى وهو الأمر المستحيل. ومن ثمة فانتظار الوحدة من أنظمة استبدادية كانتظار الحليب من الثور. هل ثمة دليل أبلغ من صراع شقَّي حزب البعث وقد ملكا سوريا والعراق وعِوض أن يتحد البلدان دخلا في صراع صامت انتهى باصطفاف النظام السوري مع الغزاة الأمريكيين للعراق؟
هكذا رأيتهم يحلمون بالوحدة مصرين على تحقيقها بالأداة الخطأ وجاءتني يوما بخصوصهم صورة المصمَّمَ على الكتابة بالملعقة والأكل بالقلم. أي خلاص يمكن أن تنتظره من أناس يعتبرون أن المشكل هو الحلّ؟
أما الخطيئة فصمتُ القوميين عن كل تجاوزات الاستبداد وفساده، عما حدث في حلبجة حين أمطر النظام المدنيون الأكراد بالأسلحة الكيماوية سنة 1988، وصمتهم أمام مجزرة سجن تدمر في سوريا سنة 1980 وصمتهم أمام فضائع سجن صيدنايا في سوريا إلى اليوم (المسمّى المسلخ البشري)، وصمتهم أمام مجزرة أبو سليم في ليبيا سنة 1996، وصمتهم أمام مجزرة رابعة في مصر صيف 2013.
المحزن في الأمر أنهم لا هم ولا من قبلهم استبطنوا أكبر درس علمنا إياه التاريخ وهو أن الوسائل القذرة توسّخ الغاية النبيلة التي تدّعي خدمتها ناهيك عن كونها توسّخ كل من قبل، عن كسل فكري وسقوط أخلاقي، مقولة الغاية تبرر الوسيلة.
*
لقائل إن يقول: ماذا عن الخطأ الذي ترتكبه أنت، بِدعوَتك لعروبة جديدة؟ أليس المفهوم نفسه “ملغّم” بكل التناقضات التي جعلَت ترجمته إلى واقع سياسي أمرا مستحيلا؟ ألستَ تسقط في نفس خطأ القوميين القدامى وأنت تبحث عن نقل نموذج أوروبي من القرن العشرين هو الاتحاد الأوروبي، كما بحث أسلافك الميامين عن نقل نموذج أوروبي آخر من القرن التاسع عشر هو نموذج الوحدة الألمانية والإيطالية؟
ثمة مَن وصل بهم القرف في الأقطار التي حكمها –قل دمّرها-القوميون إلى القول إنه لا وجود أصلا لأمة عربية.
نتفهم غضبهم لكن هل داعش سبب لنكفر بالإسلام؟
وبالنسبة لبعض المنظرين الشاكين في وجود أمة عربية، عليهم أن يفسّروا لنا لماذا التهبت مصر وليبيا واليمن وسوريا مباشرة بعد اندلاع الثورة المباركة في تونس سنة 2011 ولم تندلع في البيرو أو كازخستان؟
أليس ذلك لأنه يوجد نسيج روحي ثقافي سياسي وُجداني بين هذه الشعوب، تحركَت داخله الثورة كما تتحرك الكهرباء داخل ألياف نفس الشبكة؟
وراء هذه الفكرة أيضا مواصَلة التسمم بالمفهوم الغربي للشعب والأمة إذ لا وجود بالنسبة له للشعب الفرنسي إلا بالدولة الفرنسية ولا وجود للأمة الألمانية إلا بالرايخ الألماني. بما أننا لم ننجح في إيجاد الدولة العربية الواحدة فمِن العبث الحديث عن أمة عربية. مشكلة هؤلاء الناس عدم فهمهم أننا من الأمم النادرة التي لا تَخلقُها دولة، إنما نحنُ مِن الأمم التي تَخلق الدولةَ تلوَ الدولة، لا يشاركنا في هذه الخاصية إلا الهنود والصينيون.
قارِن بين ملحمة العرب في القرن السادس الميلادي وملحمة المغول في القرن الثاني عشر. المغول كالعرب بدوٌ وفرسان قلّ نظيرهم، وغزاة لا يقف أمامهم شيء ولا أحد، تجاوزَت إمبراطورتيهم كل الامبراطوريات القديمة والحديثة. ما الذي بقي منهم اليوم؟ حالما انهارت الدولة التي أسسها جنكيز خان وأحفاده اختفوا من التاريخ وهم اليوم بضعة ملايين فقط، يعيشون على تخوم الامبراطوريتَين الروسية والصينية.
خذ الآن العرب. انهارت دولتهم المركزية الأولى في الشام ودولتهم الثانية في العراق، وغزاهم المغول والصليبيون والأتراك والأوروبيون، وأخرِجوا من الأندلس، وتتالت عليهم الحروب والمصائب ومنها حكم أنظمة قمعية فاسدة تتستر بالوطنية والقومية والإسلام السياسي. ومع هذا، هم اليوم أربعمائة مليون نسمة ولهم اثنان وعشرون دولة ويحتلون ثلاثة عشر مليون كيلومتر مربّع من الفضاء ولُغتهم تنتشر رغم كل العوائق، مما يجعل منهم، لغةً وتعدادا وفضاءً، إحدى أممٍ خمس تتربّع على ترتيب الأمم فوق سطح الكوكب.
لماذا هذا البون الشاسع في المصير؟ لأنه كان للعرب خلافا للمغول عاملين أساسين للتوسع والبقاء: رسالة إلى الإنسانية جمعاء ولغة من أعظم ما انتجه الإنسان من لغات.
ليس من المبالغة القول إنه لولا الإسلام لما كان مصير العرب أحسن من مصير المغول. لكن أيضا إنه لولا الفاتحين والعلماء والتجار العرب لما بلغ الإسلام ما بلغه من سؤدد وانتشار، والعرب هم من حملوا مشعله القرون الأولى ونقلوه لكبريات الأمم الإسلامية الأخرى، التي واصلت الملحمة.
كم أخطأ الإسلاميون عندما رفضوا للعرب شخصيتهم القومية، والحال أن التاريخ مصنوع من تنافس الأفراد والشعوب والحضارات، وأن ذلك الاحتكاك عنصر بِناء وحيوية، طالما لم يتجاوز الخط الأحمر للشعبوية والعنصرية.
كم أخطأ القوميون عندما أرادوا تحت تأثير النموذج الغربي القطع مع الإسلام وتهميشه، وكانوا كمَن يريد الدخول في سباق سيارات ويتعمّد تعطيل نصف محرك السيارة التي ينافس بها على المرتبة الأولى. هكذا تركوا الساحة للإسلاميين الذين عرفوا النقر على أكثر الأوتار حساسية في روح الأمة وبقوا هم والتقدميون خارج النسق فارتموا أكثر فأكثر في أحضان بقايا الاستبداد ليزيدوا الطين بلة.
لقائل إن يقول إذا كنا أمة وحدتها الثقافة وفرقتها السياسة ولا تدين بوجودها لدولة، فما الفائدة في المشروع الوحدوي أصلا؟ حقا آخر ما يمكن تحقيقه وآخر ما نحتاج دولة مركزية من المحيط إلى الخليج على رأسها الرفيق القائد الذي لم تلد عربية قبله ولا بعده. لكننا بأمس الحاجة لنظام عربي جديد يجمع الشمل ويوحد الجهود في إطار الحرية والتعددية والتضامن حتى نعود من صناّع التاريخ لا من ضحاياه.
الموضوع اليوم -ونحن أمّة عظمى ومع ذلك لا نزِن شيئا-رفعُ تحدّيات غير مسبوقة عبر تحقيق هدفَين سيصحّحان الخلل الذي انتبه له القوميون وفشلوا في علاجه: بناء دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية الاجتماعية في كل قطرٍ وبناء اتحاد عربي لشعوبٍ حرة ودوَل مستقلة، انطلاقا وتعلّما من كل التجارب الفاشلة للأنظمة الاستبدادية، وطنية كانت أو قومية أو إسلامية، وتمسّكا بالمصدرَين الوحيدَين لقوَة هذه الأمّة وضمان تواصلها عبر التاريخ: دينها ولغتها.