في الجزيرة نت
المثقف حين يكون نقيضه
بقلم أحمد الشريقي-الدوحة
الثلثاء 31 كانون الثاني (يناير) 2012
حين لم تكن رياح الربيع العربي قد هبت نسائمها بعد، كان ثمة جدل طويل حول دور المثقف العربي في الحياة العامة، لم تكن دماء قد سالت في الشارع بعد، عندها كان المثقفون العرب آمنين ويشتبكون في أطروحاتهم الورقية، مع الاشكاليات ذاتها “المثقف والسلطة” وتبعية أو ذيلية الأول للأخير.
تلك كانت اشتباكات آمنة، وحين كانت الجماهير العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا أخيرا، تواجه الاستبداد في منازلة طويلة من أجل حريتها، عادت مقولة استدعاء المثقف العربي ثيمة أبرز في الخطاب الثقافي والإعلامي.
ومنذ الهبات العربية للانتفاض على استبداد عمر طويلا، ظل استدعاء المثقف ليقول مقولته وليشتبك مع حركة التغيير هو مطلب الجماهير، التي طالبت المثقف العربي بالنزول من برجه العالي والخروج من بين السطور لتشتبك مقولاته مع الرياح العاتية ضد الاستبداد.
في الامتحان الكبير تنكر فنانون ومثقفون كثيرون لمقولاتهم، انحاز فنانون من شاكلة دريد لحام، صاحب المسرح الأكثر ضجيجا وثورية، إلى النظام الذي حاربه فنا ومسرحا وانحاز لدمويته. راوغ أدونيس في موقفه وانحاز بالمجمل إلى موقف النظام مع خطاب مراوغ يماهي بين الضحية والجلاد، قبلها كان مثقف التنوير جابر عصفور يأخذ موقفه وزيرا في النظام البائد، ثم يتراجع إشفاقا على تاريخه الثقافي.
في الجهة الأخرى كانت ثمة نماذج أخرى بقيت مرابطة عند قضاياها وتمسكها بحرية الشعوب، دفع علي فرزات أصابعه ثمنا لمواقفه، وبقي الفيلسوف العربي ابن حمص الطيب تبزيني عند مقولاته حول “فساد الدولة الأمنية” وضرورة زوالها. وفي قائمة المقاومين أسماء كثيرة يطول تعدادها.
في مشهد أثير كانت تونس تنجز ثورتها، دافعة استحقاقها من فاتورة الدم من أجل الحرية، ومع أول انتخاباتها كان ثمة مثقف مناضل حملته الجماهير وفاء إلى السلطة. وبوصوله إلى سدة الرئاسة يتطلع كثيرون إلى المنصف المرزوقي مثقفا بدأ تنظيره وحلمه بالخلاص من الاستبداد باستعارة نموذج المهاتما غاندي، بعد فوز بجائزة المناضل الهندي، وهي التي فتحت للطبيب المولود عام 1949، بلاد نهرو وغاندي، ليعاينها ويرى على الأرض، مقولة التغيير باللاعنف.
جاب المرزوقي بلاد الصين عام 1975، عاد بعدها بأربعة أعوام إلى تونس عام 1979 رغم إلحاح أقربائه على بقائه في فرنسا، أوقف مؤلف كتاب “حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان” في مارس/ آذار 1994 ثم أطلق بعد أربعة أشهر من الاعتقال في زنزانة انفرادية، وقد أفرج عنه على خلفية حملة دولية وتدخل من نيلسون مانديلا.
تلك مسيرة مختصرة للمثقف إذ يصل سدة السلطة، وخلالها كان قد وضع أطروحته (السؤال) “هل نحن أهل للديمقراطية؟” عام 2002، وفيه نثر آراءه حول الجدارة العربية بتحقق الديمقراطية، مارا على مقولة صمويل هنتنغتون، والغرب المهيمن، الذي ما زال يعتقد بأن المجتمعات العربية غير جديرة بعد بالعيش في أفياء الديمقراطية، أو أنها في أحسن أحوالها لم تنضج بعد لممارستها.
في المعترك الجديد الذي يخوضه المرزوقي اليوم يضع أفكاره في مختبر الواقع للرد حول عدم أهلية المجتمعات العربية التي يرى منظرو المركزية الغربية بأنها “خاصية حضارية غربية لا يمكن زرعها خارج التربة التي نشأت فيها لأسباب تتجاوز إرادة البشر وتتعلّق بإرادة التاريخ والصيرورة التي اتخذها”
وإذا كان صاحب “الاستقلال الثاني” قد رد وقتها بالسخرية من تلك المقولة، فإن المثقف الآن وقد تسلم زمام السلطة يحسن به الرد على ما هو أكثر من السخرية، وذلك بتحقيق الأنموذج الذي سعى وناضل من أجله. وربما كان المرزوقي بين قليلين أتيح لهم أن يمارسوا السلطة الآن مدججا ببيان حول ؟أسلوب حكم مبتغى هو “كتابه هل نحن أهل للديمقراطية”.
إذن على رأس السلطة في تونس اليوم علماني يخوض مع معركة الداخل، وفي التفصيل مثقف بالمفهوم العصري متحالفا مع الفقيه (حزب النهضة) لقيادة تونس عبر توليف بين التراث والحداثة.
وإذا كان نموذج المرزوقي حالا ممثلا لمثقف اشتبك مع الثقافة لا من موقع احترافي بل من اشتباك أيضا مارسه الطبيب من موقع نضال سياسي، فإن الحال مختلف قليلا مع المفكر والأكاديمي العربي السوري برهان غليون، الذي يمكن الاشارة إليه باعتباره مثقفا احترافيا، دون القطع بالطبع مع اشتباكه مع العمل السياسي. بيد أنه لفترات طويلة ظل محافظا على المسافة الفاصلة بين التنظير والاشتباك مع اليومي، والمثقف الإستراتيجي والسياسي الآني واللحظي.
كان صاحب “بيان من أجل الديمقراطية” قد اشتبك مع السياسة من موقعه الأكاديمي لكنه كان يعاينها بعين ورؤى المثقف، وفي موقعه المتقدم اليوم رئيسا للمجلس الوطني السوري، تتضاءل المسافة الفاصلة بين المثقف المنظر والسياسي المشتبك مع تفاصيل اليومي ليجد نفسه في مواجهة لاختبار مقولاته النظرية على الأرض.
وما لم تثر كتبه وتحولات فكرية كثيرة في حياته أحدا ولم تجلب عليه عداوات عنيفة، يفعلها تصريح صغير قد يخرجه من الملة، وهو ما فعله على أية حال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، حين قال ردا على أحد تصريحات برهان حول الموقف من المقاومة وحزب الله بأحد خطاباته “برهان الدين..أعتقد أنه ما في هناك دين” في إشارة لا إلى الوقوع في إشكال الاسم على نصر الله بقدر ما هو ما يحتمل هجوما على تنصل غليون من حتى من المعتقد.
على أن السهام التي طاولت صاحب “اغتيال العقل” ليست مقتصرة على رجل بحجم الوزن السياسي والديني الكبيرين الذي يتمتع به نصر الله. السهام أيضا كانت تنهال هذه المرة وبشكل أقسى وأشد من الحقل الثقافي الذي ينتمي إليه غليون نفسه، وهو حقل الثقافة. هكذا شن الشاعر العراقي المعرف سعدي يوسف حملته على غليون في خطاب -ربما غير معتاد وجارح في الردود الثقافية بين مثقفين- وهو وفق يوسف “شخص تافه، وداعية للهمجيّة الإمبريالية الفرنسية”.
كل ذلك الهجوم الذي يمس مثقفا “بغض النظر عن مدى أخلاقية هذا المثقف” فاتورة يدفعها المنتقلون من حضن الثقافة الآمن إلى معترك السياسة، أبعد من ذلك ترتطم مقولاته السياسية اليوم بإحالة ملف سوريا إلى مجلس الأمن وإشراع بابها على تدخل دولي محتمل بما يناقض المثقف الرافض لتدخل الخارج كشرط لتحقق الديمقراطية، ويفتح بابا مثيرا حول عودة المعارضين إلى سدة الحكم على دبابة الغرب.
في تجارب العالم المتقدم والمتخلف على حد سواء نماذج عن تحولات المثقف في وصوله للسلطة، بيد أن الإشكاليات التي واجهها مسرحي وشاعر ومبدع كبير هو فاتسلاف هافل، لدى تسلمه السلطة في بلاده تشيكيا بعد انهيار الاشتراكية فيها، ليست بمثل الحدة التي يواجهها مثقفون عرب يئنون تحت وقع “التأخر” عقودا طويلة.
مثقفون مازالوا يعاينون تخلفهم وأسئلة نهضتهم من جهة وتغول الآخر الذي، هو واحد من أسباب تثبيت هذا التخلف، ويقعون في المأزق ذاته ، فإذ يبدو الآخر سببا للتخلف يغدو أيضا بمثابة المخلص!.
تصفح