الجيوش العربية امام مفترق الطرق
الاثنين 9 أيار (مايو) 2011
في القرار 1514 الصادر بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 1960 للجمعية العامة للأمم المتحدة، نقرأ: ’’لدينا قناعة بأن طريق التحرر غير قابل للتراجع وأنه لتفادي أزمات خطيرة يجب وضع حدّ للاستعمار ولكل ممارسات التفرقة التي تصاحبه’’.
نصف قرن بعد هذا الموقف نقرأ لنفس الجمعية العامة في إعلان سبتمبر/أيلول 2007 الاعتراف بحق تقرير المصير للشعوب الأولى الأصلية التي وجدت نفسها -كما هو الحال في كندا وأميركا والبرازيل وأستراليا- أجنبية في الأرض التي ولدت عليها.
القاسم المشترك بين الحالتين أن حق تقرير المصير هو دوما بالنسبة لمحتلّ يأتي من خارج أرض الآباء والأجداد. لكن لا شيء في أدبيات الأمم المتحدة عن الاحتلال الداخلي، الاسم الآخر للدكتاتورية، وهو أشرس أنواع الاحتلال وأكثرها انتشارا.كم مضحك مبكٍ أن أغلب الشعوب التي قيل إنها تحررت من الاستعمار في ستينيات القرن الماضي، لم تفعل سوى استبدال احتلال باحتلال. وفي بعض الأحيان قد استبدلت بالسيئ الأسوأ.
لمن يرفض مفهوم الاحتلال الداخلي ويعتبره من باب البلاغة والمبالغة، نذكّره بأن الاحتلال بمفهومه الواسع هو التمكن من الفضاء الحيوي لشخص أو شعب والتحكم فيه بالقوة، لاستغلال موارده المادية والمعنوية للصالح الخاص دون أدنى اعتبار للصالح الآخر، اللهم إلا ما يكفل إبقاءه على قيد الحياة وعدم اللياذ ويحول دون لجوئه للتمرّد، ضمانا لمواصلة استغلاله.
وسواء احتلّك أجنبي أو ابن عمّك فالحالة متشابهة في الخصائص الأربع التي تُعَرف كل احتلال: استنزاف الخيرات لصالح أقلية، وتغليف الأمر بقناع سياسي للتمويه لإيهام الناس بأنهم يعيشون في ظل نظام يضمن التحضّر أو التقدم، والقبضة الأمنية للإبقاء على الوضع، واحتقار الحكام للمحكومين بامتهان حقوقهم وترويعهم بالرعب المستديم والمراهنة الدائمة على الجبن والخنوع فيهم.
ما يتناساه الناس هو أن الاحتلال الداخلي في تاريخ الشعوب هو القاعدة. أما الاحتلال الخارجي فهو الحالة الشاذة أو الحادث التاريخي العابر. فعلى امتداد تاريخنا العربي الإسلامي كانت المجموعات المتنفذة المحلية هي التي كانت تستعبد شعوبنا وأحيانا دون قناع كما نراه من مقولة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يوم اعتلائه سدة الخلافة “يا أيها القوم، المال مال الله وأنا خليفة الله، الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي وما تركت منه كان جائزا لي، ما جمعتم فهو لي وما تركت لكم فالفضل مني”.
انظر لما عاناه الشعب الكمبودي في بداية السبعينيات من مجازر جماعية كادت تبيده عن بكرة أبيه، لا على أيدي غزاة خارجيين وافدين وإنما على أيدي جيشه وقد استسلم لأيديولوجيا مجنونة. انظر لما يتعرض له إلى اليوم شعب بورما أو شعب كوريا الشمالية، أو لما يتعرض له –هنا في عقر دارنا- الشعب السوري أو الليبي وشعوب عربية وأفريقية أخرى غيرهما.
إنها الظاهرة الرهيبة التي تربطنا بجذورنا البدائية، وحتى كي لا نقول الحيوانية. لأن القاعدة في عالم الطبيعة هي الصراع الذي لا يرحم، ولا حق غير حق قوة بلا مساحيق. وسواءً أكان الاحتلال داخليا أم خارجيا فإن ركيزته الجيش الذي يحمي بقاء المنظومة الاستبدادية ويفوّض لأجهزة “الأمن” (أمن المحتلين الداخليين) مهمة متابعة المحتجين الفرديين فرادى، ليتدخل عندما يقتضي الأمر مواجهة انتفاضات جماعية، كما هو الحال اليوم في ليبيا وسوريا.
يا للمنظر المريع الذي وثقته إلى الأبد صور بثتها قناة الجزيرة والتقطتها هواتف المواطنين: دبابات ضخمة تزأر وتزحف على أهل درعا.. على شعب ليس عدوّا أو مغزوّا، وإنما الذي هو نفسه من دفع ثمن هذه الدبابات من قوت أطفاله لتحميه، فإذا بها تسحقه سحقا.
يا للمنظر الرائع ونفس الصورة تظهر شبابا يواجهون مدافعها ورشاشاتها بحجارة يقذفونها على رمز وأداة العنف والقهر، تحديا وإصرارا على أن قوة الشرعية أقوى من شرعية القوة. بربكم ألا تُذَكّرُكم هذه الصورة بما يحدث في غزّة؟ وما الفرق إن لم يكن أن ظلم ذوي القربى أشد مرارة؟ وهذا الجيش السوري، مثْله مثل بقية الجيوش العربية، مواجَه بأضخم امتحان في تاريخه وتاريخ شعبه: أن يبقى جيش احتلال داخلي متزايد الغربة عن الوطن الذي يَدعي حمايته، أو أن يصبح الأداة التي ستُعَجل ببروز شمس الحرية.
يا له من تحد هائل أمام مؤسساتنا العسكرية التي لعبت طوال تاريخنا الحديث أدوارا معقدة وأحيانا متناقضة في جدلية الاستعباد والتحرّر. حقا إن للجيوش العربية تواريخ مختلفة في هذا المضمار، فالجيش المصري الذي ساهم في التحرر من المحتل الداخلي سنة 1952 ومن المحتل الخارجي سنة 1973 هو الذي شكّل دعامة الاستبداد طيلة حكم مبارك، إلى أن تحول في تلك اللحظة المباركة إلى جانب الشعب في ثورة يناير 2011. هناك الجيش المغربي الذي فشل في انقلاب الصخيرات ومن يومها وهو ركيزة النظام. هناك الجيش السعودي الذي لم يتجاسر يوما على أولياء الأمر. هناك الجيش الجزائري الذي شكل ولا يزال يشكل العمود الفقري للاستبداد والفساد، بعد أن كان لنواته الأولى فضل كبير في تحرير البلاد من نير الاستعمار الفرنسي.
لكن رغم تباين الأوضاع والتواريخ، فإن جميع هذه الجيوش تقف اليوم أمام نفس مفترق الطرق. فالثورة الديمقراطية التي تعصف بالأمة وقد قرّ قرار شعوبها على تحقيق استقلالها الثاني مهما كان الثمن، لا تترك من خيار للجيوش إلا طريقين اثنين لا ثالث لهما. الأول هو المبنِي على العقيدة القديمة: الجيش دعامة النظام السياسي القائم، لا يهمّ بغض النظر عن مدى شرعية ذلك النظام أو عما يرتكبه من تجاوزات تكاد –لفرط تداولها- تُعْتَبَرُ من الأمور الطبيعية في ممارسة السلطة. وهو العمود الفقري -على الأقل بالنسبة للقيادات العليا- لهذا النظام. ويحصل بموجب تلك الشراكة العضوية على جزء من الغنيمة تشتري بها لقاء ولائه لعصابات الحق العام التي استولت على دولنا ولاءه. والثاني هو المبني على عقيدة عسكرية بدأت تتضح معالمها، قوامها أن الجيش ليس في خدمة النظام بفساده المشين وإنما هو في خدمة شعب فهِم أن عدوه الأول ليس شعبا أو دولة أجنبية وإنما العصابات الإجرامية التي تمتص دمه وتعفّر كرامته في التراب. وأفظعها تلك الأنظمة، التي ترتكب كل هذه الجرائم تحت غطاء الوطنية والقومية وما إلى ذلك من الترهات التي لم تعد تبرّر شيئا أو تُقبل من أحد إلا إذا كان غبيا أو متواطئا.
من بين هاتين العقيدتين المتناقضتين يتمّ خيار سيحدّد الثمن الذي ستدفعه شعوب لن تقبل بالعودة لوضع ما قبل انطلاق أول ثورة عربية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 في مدينة سيدي بوزيد.
ضفالامتحان المطروح اليوم أمام مكونات الجيوش العربية وخاصة القيادات الكبرى هو: بأي عقيدة نلتزم من هنا فصاعدا وأي النموذجين نختار؟ الذي اختاره الجيش التونسي والمصري، أو الذي انزلق فيه الجيش السوري واليمني والبحريني (ناهيك عن كتائب القذافي) أو الذي قد ينزلق فيه غدا -لا قدّر الله- الجيش الجزائري أو المغربي أو السعودي أو الموريتاني؟ إن خيار الاصطفاف وراء النظام الفاسد بالحجج الواهية التي لم تعد تقنع أحدا، من حفظ النظام العام والاستقرار، لا يعني سوى قتل آلاف المدنيين العزّل بأسلحة دفَعَ الشعب ثمنها ووضعها بين أيدي جيشه لتحميه.
بمثل هذا الانقلاب على الوظيفة الطبيعية للمؤسسة العسكرية تنهار كل قيمة معنوية للجيش، فإراقة دم من سيعتبرهم التاريخ أبطالا وشهداء وصمة عار في جبين كل جيش ينزلق في ما انزلقت فيه كتائب القذافي والأسد. لقد فقد العسكر في ليبيا كل شرف وهم يضربون بالقنابل سكان مصراتة العزّل، كما فقد ماهر وبشّار الأسد وفيلقهما الرابع كل شرف وهم يهرعون بالدبابات لقتال سكان درعا البطلة. من يصدّق صور التلفزيون السوري عن مئات الأسلحة والرشاشات المضبوطة بحوزة الإرهابيين.. حقا “أسد عليّ وفي الحروب نعامة”؟ لا ننسى أن خيار الاصطفاف وراء النظام ضد الشعب ليس خطرا على الشعب فحسب وإنما هو أيضا خطر على وحدة الجيش، الذي يبدأ تفككه حالما يبدأ استعماله للقمع. فهذا الأخير مكوّن في مستوى قاعدة الهرم من الضحايا وأبناء الضحايا (ومن ثم وجود أجهزة المخابرات العسكرية التي تتجسس على الجيش نفسه لاستئصال كل بذور التمرّد).
وإبان المواجهات الدورية التي تحصل عبر التاريخ بين المحتلين الداخليين وضحاياهم المنتفضين لحقوقهم وحرياتهم، يجد الجيش نفسه مقسما بين مصالح القيادة التي هي دوما جزء لا يتجزّأ من المنظومة الاستبدادية بل خطّ دفاعها الأول والأخير، وبين مصالح صغار الضباط والجنود، وهُمْ جزء من الشعب المسحوق. بقدر ما تطول فترة المواجهة بقدر ما يتمزق النسيج المشكل لوحدة الجيش، وهي الظاهرة التي رأيناها في تفجّر الجيش الليبي وفي انقسامات الجيش اليمني وبداية التصدع في الجيش السوري.
الأخطر من هذا أن التغييرات حتمية ومن ثم فإن التعرض لها أمر عبثي. لا أحد قادر اليوم على حماية النظام العربي القديم من الانهيار، لا قوات الاحتلال الداخلي متمثلة في شراذم البوليس السياسي ولا البلطجية ولا حتى الجيش نفسه إن اختار صفّ الخاسرين. وهؤلاء يضيق الخيار أمامهم يوما بعد يوم. كان ذلك إلى مدى قريب، التغيير الجذري أو الرحيل أو الموت ثم أصبح الرحيل أو الموت وعما قريب سيكون الموت أو الموت.
إذا كانت مصلحة قلة قليلة من كبار الضباط تفرض خيار تثبيت الاحتلال الداخلي، فإن مصلحة الغالبية العظمى من الضباط والجنود أن يكونوا مع الوظيفة الطبيعية لجيش وطني، وأن يكونوا مع حركة التاريخ وحقوق شعبهم وخاصة مع شرفهم العسكري، وهذا الأخير يتطلب رفض كل أوامر بقتل المدنيين أسوة بإخوتهم التونسيين والمصريين الذين وضعهم الشعب في مصاف الأبطال والمحررين. إن مهمتهم التاريخية اليوم أن يكونوا درعا للثورة السلمية وأن يحافظوا على الأرواح ومنها أرواح الأغبياء الخطرين الذين أوصلونا وأوصلوا أنفسهم بالشطط في الفساد والتزييف والقمع إلى هاوية الحرب الأهلية.
في هذه الحالة، عوض أن يكون الجيش أداة تواصل الاحتلال الداخلي سيكون أداة التحرر منه وتحقيق السلم المدني، وذلك أشد حاجياتنا إلحاحا لنعيد التأسيس فوق الخراب.
إن نداء الضمير والواجب والشرف والمكانة في التاريخ يحتم على ضباطنا وجنودنا رفض قتل أبناء جلدتهم للدفاع عن قوم تقيأتهم الأمة ومكانهم مزابل التاريخ، والانخراط في الثورة المدنية السلمية حتى يكونوا جزءا من الحل بدل أن يكونوا أكبر عائق أمامه.