في الجزيرة نت
الاستبداد “الصالح” بعد الاستبداد الطالح ؟
الاثنين 17 أيار (مايو) 2010
في مقالتي الأخيرة “هذه الديمقراطيات المبغضة للديمقراطية” أظهرت ضعف حظوظ المشروع الديمقراطي في الوطن العربي لعوامل عدّة تضافرت كلها ضده. هل نقول على أحلامنا بالدمقرطة السلام، وآنذاك ما البديل؟.
لاستقراء مستقبل محمّل بالأخطار والوعود، يجب الخروج من التعميم فالنظام السياسي العربي واحد في هيكله لكن بحالات متباينة، ومن ثم ضرورة التصنيف.إذا وضعنا جانبا الخطر الخارجي وقنبلة تشكيل السكان، فالنظام في الخليج قادر على التواصل طويلا لأن الاستبداد ملطّف بالأبوية ، محمي بالقبلية، قادر على شراء الأمان الاجتماعي بفائض الثروة، ناهيك عن الحماية الخارجية المضمونة.
أما وضعه في الملكيات مثل السعودية والمغرب والأردن فأصعب، ولو أنه قادر على الاستمرار زمنا غير محدّد لتوفّره على بعض الشرعية الدينية والسياسية عند عامة الناس، وشيء من المهارة في ادعاء الإصلاح، ناهيك هنا أيضا عن الدعم الخارجي.
البطن الرخوة للنظام الاستبدادي العربي هو الجملكيات (مصر، سوريا، تونس، ليبيا، الجزائر، موريتانيا، السودان، اليمن)، حيث لا شرعية تاريخية أو سياسية ولا إنجازات وإنما العجز والفساد والقمع. قدر هذا الاستبداد الفاشل العيش بأقصى العنف لا خيار غير شعار “وداوني بالتي كانت هي الداء”. الصيرورة هنا بديهية: مرحلة احتضار نعايشها ولا أحد يعرف مدتها، ستتبعها مرحلة فوضى لا أحد يعرف خطورتها، ثمّ مرحلة بناء نظام جديد. لكن على أي شكل؟.
ترميم النموذج القديم؟ جدّ ممكن والمخابرات الغربية تبحث اليوم عن وكلاء جدد يحافظون في مصر وتونس وبقية الجملكيات على نفس النظام الضامن لمصالحها الإستراتيجية، لكن مع تقديم بعض الفتات للمجتمعات. المشكلة أن نفس الأسباب تؤدي لنفس النتائج، ومن ثم سنعود عاجلا أو آجلا للبحث عن بديل للبديل المغشوش. هل تكون الديمقراطية ولو بعد جولة استبدادية عبثية أخرى؟ ممكن لأسباب سنتعرض لها لاحقا، لكن الأمر غير مضمون لإغراء بديل الاستبداد “الصالح” الذي تعطينا الصين أبرز مظاهر نجاحه.
*** لنتمعّن في بعض خصائص هذا النوع من الاستبداد، وسنرى أين تكمن خطورته على عقولنا المشوشة وقلوبنا المجروحة.
إنه النظام الذي أنقذ أربعمائة مليون صيني من الفقر في أقل من عقدين من الزمان، ورفع الصين إلى مرتبة الاقتصاد الثاني في العالم بانتظار أن يصبح الأول.
هو الذي أعاد للأمة الصينية سالف مجدها وجعل منها قوة سياسية واقتصادية وعسكرية وحتى ثقافية ومعاهد كونفشيوس لتعليم اللغة تغزو العالم. عن الثورة العلمية والتكنولوجية حدّث ولا تسل، والصين احتلت السنة الماضية بـ120000 مقالة علمية المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة (350.000 مقالة)، وهو ما يجعل جوناتان آدمس يقول إن الموضوع ليس هل تصبح الصين أكبر منتج للعلم، لكن متى؟.
عوض أن يتستر النظام على الفساد تراه يحاربه بلا هوادة. إن الشعبية الخارقة التي يحظى بها في الصين اليوم باو كسي لاي، عمدة شونقكينغ هي لحربه الضروس لا ضد فساد الهوامش وإنما داخل الحزب الشيوعي الحاكم وفي صفوف البوليس، أي في عقر دار السلطة.
في نفس الفترة التي لم تعرف فيها مصر إلا رئيسا واحدا تتابع على هرم الدولة في بكين ثلاثة رؤساء هم يانغ شانغ كون (في ظل الحاكم الفعلي دنغ هسياو بنغ) وجيان زيمين والرئيس الحالي هو جينتاو، وسيتم انتخاب رئيس رابع قبل خلاص مصر من رئيسها المزمن وإفلاتها من معرّة التوريث. لا أحد من هؤلاء فكّر في الرئاسة مدى الحياة أو في توريث الصين لابنه أو لصهره. هو يتنحى أو ينحى بإرادة جماعية لأن المستبدّ ليس نرجسيا مريضا وإنما منظومة سياسية لا تخدم شخصا وعائلته أو طائفته وإنما الوطن.
تذكروا القاعدة الخلدونية عن ولع المغلوب بتقليد الغالب، وهل يوجد اليوم غالب إلا الصين؟.
ما أسهل نقل نظامها ولا شيء في جوهره (الدكتاتورية السياسية والليبرالية الاقتصادية والقومية الغازية) يتعارض مع “مقدّساتنا” أو مطامحنا، خاصة مع عقولنا المسمّمة منذ خمسة عشر قرنا بأسطورة المستبد العادل. أضف لهذا أن مزيج القومية والإسلام السياسي يمكن أن يلعب دور الغطاء الأيدولوجي الذي يلعبه في الصين الخليط العجيب من الرأسمالية والشيوعية، إنه غطاء محلي الصنع، سهل التسويق وجاهز، فلماذا لا يكون استبداد كهذا، غير مشخّص، محارب للفساد، ناجح اقتصاديا ووطنيا، خيارنا بدل المشروع الديمقراطي المحمّل ظلما بكلّ أوزار السياسة الغربية وبكل تهم الانبتات ومنافسة الإسلام بل ومعاداته؟.
*** يجب قبل الردّ طرح سؤال آخر. لماذا تتكفل الشعوب حتى في أصعب الظروف الاقتصادية بتكاليف تربية جزء من أبنائها وبناتها وهم لا ينتجون شيئا ماديا؟، طبعا لأنها تنتظر ممّن تسميهم المثقفين الاضطلاع بمهمة لا تقل خطورة عن إنتاج الموادّ، وهي إنتاج الأفكار والتصورات لتقديم خيارات تضيء الطريق أمامها تقيها من العثرات أو من الدوران في الحلقات المفرغة.
وفي هذه اللحظة التاريخية العصيبة، وأمام كم من تقاطعات طريق خطرة، لم تكن الأمة أكثر حاجة لمثقفيها من حاجتها إليهم اليوم. إن واجب المثقف ليس التغريد مع السرب والمشي في أهواء العامة والتمسح بالفكر السائد لاكتساب شعبية رخيصة، وإنما اعتبار نفسه جندي استكشاف مهمته تجميع المعلومات عن تجارب أمته وتجارب الآخرين، والبحث في دروسها ثم العودة بكل ما في جعبته، منبّها وموصيا باتباع هذا الطريق بدل ذلك، هاجسه الأول سلامة أمته لا سلامته هو. وفي الوضع الذي نحن عليه هذا ما يجب على المثقفين وضعه نصب عيني الأمة حتى لا تضلّ طريقها مجدّدا.
إن الطفرة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية التي تعرفها الصين ليست مرتبطة آليا بالاستبداد “الصالح”، فلها نظيرة في الهند الديمقراطية ، بل ثمة من المحللين من يرون أن هذا البلد يتوفّر على ضمانات تقدم أطول نفسا مما تعرفه الصين.
أن وراء الستار في كل استبداد -ولو كان ناجحا- كمّ هائل من الدم والدموع (انظر تعامل السلطات الصينية مع المعارضة أو التبتيين أو الويغور)، وذلك لنزوع غريزي عند الاستبداد لاستعمال أقصى العنف مع المجتمع. ألا تكفي فاتورة نصف قرن من مساجين سياسيين ومهجّرين وموتى تحت التعذيب وما عشنا من خوف وإذلال؟.
إن باو كسي لاي يمثل الشذوذ وليس القاعدة، ولا أحد يعرف هل سيصبح يوما رئيسا للصين؟، أم هل سينتهي كأغلب المصلحين من الداخل منفيا أو سجينا؟.
إن الاستبداد الروسي وضع الروس في صدارة الأمم ثم انهار ومعه الروس. قد يكون هذا ما ينتظر الاستبداد في الصين رغم وطنيته وفعاليته وطهارته العابرة. – إننا أمة مفككة ومشروع توحيدها غير قابل للتحقيق بعشرين استبدادا ولو كان مؤسساتيا وطاهرا، لأنه لا مجال لتوحيد مستبد مع مستبد آخر ولو كانا من القديسين، وكل قديس يريد أن يكون هو القدّيس الأول.
أخيرا لا آخرا، فإن الاستبداد الصيني لا يكون إلا بصينيين. فالثقافة الصينية (مثل اليابانية) هي ثقافة “نحن”، أما نحن فمحور ثقافتنا “الأنا”. انظر حولك فلن تجد إلا المتواضعين المزيفين والنرجسيين المصابين بالمرض القومي بخطورة متفاوتة (لا يدعي كاتب هذه السطور سلامته منه، لكن إنصافا له يجب التنويه بجهاده ضدّه جهاده ضدّ السمنة والتدخين، أي بكثير من الجهد وقليل من النتائج). كل شيء في تربيتنا من إفراط أمهاتنا علينا بالتدليل إلى ما سممتنا به المدرسة من شعر الفخر وأساطير البطولات والعنجهيات، يعزّز هذه النرجسية المرضية. في أي ثقافة تجد مقولات إنما “العاجز من لا يستبد” أو “رجل كألف وألف كأفّ”.
قد تكون هذه العقلية المريضة هي التي جعلت تاريخنا منذ الانقلاب الأموي تداولا على دور المستبد، وكل واحد منا ينتظر فرصته في الطابور الطويل، ولا نية جدية لأحد في تغيير قواعد اللعبة.
كم باءت كل المحاولات لبناء استبداد صالح مؤسساتي غطاؤه الإسلام بالفشل الذريع، ودولة الأشخاص هي التي تنجح دوما في السيطرة فعليا على الدين الذي تدعي أنها تخدمه وهي لا تكفّ عن استخدامه. ومع هذا ما زال من يدّعي النجاح في ما فشلنا في تحقيقه على امتداد خمسة عشر قرنا. ثم كيف ننسى أن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز كانا الحالة الشاذة التي تحصى ولا يقاس عليها، إننا جربنا في تاريخنا المعاصر الاستبداد الوطني وغير الفاسد عبر التجربة الناصرية ولم نذهب بها بعيدا.
وحده النظام الديمقراطي قادر على حمايتنا من أنفسنا ومن بعضنا البعض لأنه الوحيد الذي يمنع جمع السلطات في يد شخص أو مجموعة، ويفرض التداول السريع على المسؤوليات ويستطيع محاربة الفساد بصفة مسترسلة لا علاقة لها ببطولات الأشخاص، لتوفره على مكينتين رهيبتين لقص الأعشاب المضرة التي تنبت باستمرار، أي حرية الصحافة واستقلال القضاء. وحدها الديمقراطية قادرة على فتح الفضاء العربي للبشر والسلع والأفكار، كما استطاعت ذلك الديمقراطيات الأوروبية التي بنت الاتحاد الأوروبي لبنة لبنة حال انهيار الاستبداد الفاشي والنازي والشيوعي. لذلك علينا الاقتناع والإقناع بأن الخيار الديمقراطي هو أحسن الحلول إن لم نقل أقلها سوءا؟.
السؤال ما حظوظه والحياة القاسية تعلّم أن القضايا العادلة لا تنتصر بالضرورة، والخيارات العقلانية ليست دوما هي التي تصنع التاريخ.
***
حتى لا يخضع تقييم وضع المشروع الديمقراطي العربي لا للوهم ولا للإحباط، تجب قراءته من وجهتيْ نظر متكاملتين وإن بدتا متناقضتين.
ثمة قراءة النصف الفارغ من الكأس. فرغم انطلاق الدعوة للديمقراطية من رحم المجتمعات العربية في سبعينيات القرن الماضي، ورغم الموجة الديمقراطية التي اجتاحت العالم في ثمانينياته، ورغم موبقات الأنظمة الاستبدادية وفشلها المخزي في كل الميادين وعمالتها، فإنها ما زالت متمكنة لجملة من الأسباب التي تعرضت لها في المقال السابق.
لكن ثمة قراءة النصف الملآن. ما لا نعيه هو أنه إذا كانت الديمقراطية عقلية (القبول بالآخر ومصارعته سلميا)، وآليات حكم (حرية الرأي والتنظيم والانتخابات النزيهة واستقلال القضاء)، فإننا قطعنا نصف الطريق .
نحن لم نعرف في تاريخنا مثل هذا التغلغل لفكرة التعددية الوطنية بدل المفاهيم المسمومة للإجماع والوحدة الوطنية. استولينا كذلك على حرية الرأي عبر الثورة التكنولوجية التي تسخر اليوم من كل محاولة تكميم الأفواه، أين الحزب الواحد المؤطّر للجماهير؟ رحل إلى غير رجعة، والمجتمع يتنظم أكثر فأكثر خارج سيطرة الدولة. الانتخابات؟ معركتها على قدم وساق في كل مناسبة..، استقلال القضاء؟ مطلب يتطور ببطء لكن بثبات.
بديهي أن كل أنظمتنا الاستبدادية تواجه ضغطا متزايدا لتحديث مؤسساتها في الاتجاه الذي يمشي فيه العالم بأسره. حتى أكثرها تخلفا تتزحزح في الاتجاه الذي يفرضه ضغط لا قبل به لنظام مهما كان، ويجب الآن تفحص مكوّنات هذا الضغط لتقييم قدرته على دفع المسار الديمقراطي إلى آخره.
الضغط الخارجي؟ إذا تمّت الدمقرطة العربية فلن يكون ذلك بفضل سياسة الحكومات الغربية الخمس تجاهنا (أميركا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا وإسبانيا) وإنما بالرغم عنها، وهذه ظاهرة سيحسبها يوما المؤرخون على الانهيار السياسي والأخلاقي لدول غربية تنكّرت لقيمها ولمصالحها الإستراتيجية بحثا عن مغانم آجلة تضمنها لها أنظمة متعفنة وآيلة للسقوط.
وفي المقابل إذا فشلت الدمقرطة فسيكون من بين الأسباب عمى هذه الحكومات التي عوض أن تساعد على ضمّ 300 مليون عربي للنادي الديمقراطي، رمتهم بدعمها للاستبداد في أحضان أنظمة صينية أو إيرانية ستذيقها الأمرّين. يبقى الضغط الداخلي . هو أساسا التغييرات الجذرية التي تعتمل داخل المجتمع كتحرّر المرأة وتصاعد نسبة المتعلمين وتأثير التكنولوجيا.
لنسارع بالتذكير بالخطأ التاريخي للتقدميين وإيمانهم بأن قاطرة التاريخ لا تعرف إلا وجهة واحدة: الأمام. نفس الخطأ سيرتكبه الديمقراطيون إن تصوروا أنها مسألة وقت لتجعلنا التغييرات الاجتماعية نرى درزيا يرأس لبنان ومصرية لا أحد اهتم بأنها قبطية وصلت لسدة الرئاسة في مصر. لنذكّر بأن هذه القوى “الجيولوجية” لم تكن موجودة في الهند عندما دخلت الديمقراطية في منتصف القرن الماضي، ووجودها في الصين اليوم لا يمنع هذا البلد من اتخاذ طريق معاكس.
ما هو مؤكد أن هناك قوى جبارة تعمل لصالح المشروع الديمقراطي وأخرى تعمل ضده، من أهمها الصورة المشبوهة للديمقراطية وتراثنا من الاستبداد، ووهم استبداد صالح باسم الإسلام أو القومية. ما القادر على تغليب كفة القوى العاملة لصالح الديمقراطية؟ طبعا إرادة البشر.
نحن كائنات مسيرة بقوى جبارة لكن أيضا مخيرة، وأثبت التاريخ ألف مرة قدرتها على التحكم في ما يتحكم فيها.
ولأن الخط الفاصل الحقيقي ليس بين الإسلاميين والعلمانيين وإنما بين الديمقراطيين من علمانيين وإسلاميين وبين الاستبداديين من إسلاميين وعلمانيين، فإنها مسؤولية الديمقراطيين العرب علمانيين وإسلاميين التجنّد بالقلم والساعد أكثر من أي وقت مضى لنهضة جديدة تأخذ من الإسلام قيمه ومن الديمقراطية تقنياتها.
صحيح أن مهمتهم لن تكون سهلة.. ما الذي يجب أن يدعم إصرارهم؟ اليقين بأن النظام الديمقراطي هو الطريق الوحيد للاستقلال الثاني، أي تحرر المواطن داخل وطن حرّ، والاتحاد العربي أي فدرالية الشعوب العربية الحرة، وهما كل أمل الإنسان العربي والأمة في نيل مكان ومكانة في هذا العالم. ما عدا هذا أي تشبيب النظام الاستبدادي البالي أو استبداله باستبداد صيني بأيدولوجيا إسلامية/قومية، دورة أخرى في نفس الحلقة المفرغة لنفس الفشل العقيم