في الجزيرة نت
الآفاق المرعبة والمذهلة للثورة العربية
الجمعة 18 آذار (مارس) 2011
بدايةً نقطة نظام: ثمة من يستعملون مصطلح الثورات العربية وهو أمر لا يجوز، حيث لا مجال للحديث إلا عن الثورة العربية بالمفرد، فمما لا جدال فيه:
أن أسبابها واحدة وهي تسلط الفرد وحق أهله في الفساد، وحكم الأجهزة البوليسية، وخصخصة مؤسسات الدولة لخدمة الأفراد والعصابات بدل خدمة الوطن والشعب.
أن أهدافها واحدة، حيث لم يرفع أحد مطلب بناء دولة العمال والفلاحين أو إقامة الخلافة، وإنما اتفقت كل الشعوب على الشعار الذي رُفع في تونس وصنعاء والمنامة والقاهرة وبنغازي “الشعب يريد إسقاط النظام”، وعلى مطلب مجلس تأسيسي ودستور يضمن بناء الدولة المدنية والمجتمع الحرّ ويقطع نهائيا مع الاستبداد.
أن وسائلها واحدة، فكل الانتفاضات كانت سلمية وإن ووجهت برصاص المجرمين.
أن طبيعتها واحدة: شعبية، مدنية، شبابية، بلا قيادة مركزية وبلا أيدولوجية. أمام هذه القواسم المشتركة، أيُّ أهمية لفوارق طفيفة؟
ليكفّ إذن البعض عن استعمال مصطلح الثورات العربية، فالأمر إما خطأ غير مقصود يصلّح، وإما موقف وإصرار واعٍ على تجزئة أمتنا ولو على صعيد التسميات كما تفعل الإدارة الأميركية، عندما ترفض للأمة وجودها متعاملة مع “الشرق الأوسط” و”شمال أفريقيا”. السؤال الآن -حتى لو كانت الثورة لا تشمل لحظة كتابة هذا النص إلا ثلث الأمة- هو: إلى أين تتجه؟ وما هو مآلها في الأمد القصير والمتوسط والبعيد؟
يمكننا التوقع بأن آثارها ستنتشر خارج حدود الوطن، وما عصبية الحكومة الصينية هذه الأيام إلا الدليل على توسّع دائرتها إلى حيث لا نتوقع. والثابت أنها ستمتد إلى كل أقطار الوطن، ولكل من يحاول مغالطة نفسه في المغرب والسعودية وسوريا أو الجزائر باستقرار نظامه، أن يتذكر أن أنظمة تونس ومصر وليبيا كان كل منها هو أيضا “مستقرا”. كم صدقت الفيلسوفة الألمانية هانا أرندت عندما قالت إن خاصية الدكتاتورية أن كل شيء فيها يبدو على ما يرام إلى حدّ الربع الأخير من الساعة الأخيرة.
الثابت أيضا أننا مثل ركاب باخرة كانت تطفو ساكنة على سطح مستنقع نتن، ثم وجدت نفسها وسط أعتى العواصف، ولا أحد قادر على التكهن في هذه اللحظة بأننا سنغرق جميعا أم سنصل برّ النجاة، ولا بطبيعة ذلك البر. هل يمكن لتجارب الشعوب التي قامت قبلنا بثورات أن تعيننا على تصور ما الذي ينتظر الثورة العربية؟ المشكلة أن هذه التجارب لا تبعث على التفاؤل، وهي تصف لنا مستقبلا قاتما وربما أخطر وأقسى مما عرفنا. لنتأمل بعض الثوابت التي تتردّد عبر التاريخ حتى تكاد تكون قوانين.
لا بد أحيانا من زمن طويل حتى تحقق الثورة أهدافها.. هذا إن حققتها. قامت الثورة الفرنسية عام 1789 بهدف بناء مجتمع الأخوة والحرية والمساواة، أي إنشاء نظام جمهوري وديمقراطي. إلا أنه مرت أربع سنوات قبل الإطاحة بالملك، ثم عادت الدكتاتورية عبر نابليون الذي نصّب نفسه عام 1804 ليس ملكا فقط وإنما إمبراطورا، وبعده عادت الملكية عام 1814 ممثلة في لويس الثامن عشر، ثم من بعده شارل العاشر عام 1824 والذي قامت عليه ثورة 1848، ومع هذا عادت الدكتاتورية مجددا في ثوب نابليون الثالث عام 1852، ولم تنشأ الجمهورية إلا بعد هزيمة نظامه في الحرب ضد بروسيا عام 1870. قرابة قرن إذن قبل أن تتحقق أهداف الثورة الفرنسية، والأمر ليس شاذا وإنما قاعدة، وإن تباينت مدة الجزر وتوقيت عودة المدّ.
لاتقوم ثورة إلا و قامت لها ثورة مضادة. من يفقدون السلطة لا يتبخرون ولا يذوبون كالسكر في الماء، وإنما يتراجعون خلف الستار للتآمر على قلب النظام الذي انقلب عليهم، وإن عجزوا عن الأمر بذلوا كل ما في وسعهم لعرقلة المسار الثوري وتشويهه.. هذا بالضبط ما نشاهده في تونس حيث فلول المافيات التي تركها نظام بن علي تتعاون مع فلول البوليس السياسي والحزب المنحلّ لبث الفوضى والعنف في البلاد، على أمل أن يزرعوا اليأس والندم في قلوب الناس ليترحموا حسرة على زمن الأمن في عهد دولة البوليس. أخبث الأعداء طبعا من يلتحقون بالثورة في آخر لحظة لتقويضها وإفراغها من مضمونها من الداخل، وهؤلاء داء بلا دواء. لكل ثورة ثمن باهظ.
بغضّ النظر عن القوى الهدامة التي تحركها الثورة المضادة، فإن هناك في الثورة نفسها قوى جبارة تدفع إلى الفوضى والعنف وعدم الاستقرار. فلا بدّ بالنسبة للثوريين من مجابهة الأعداء بالمقاصل والمشانق والسجون، وآنذاك تعود الآلة الجهنمية للقمع السياسي إلى العمل مع كل مضاعفاتها الكلاسيكية، ومن أولها الالتفاف على الثوريين أنفسهم.
عرفت الثورة الفرنسية فترة الرعب التي شهدت فيها قطع آلاف الرؤوس، ثم انتهت بقطع رؤوس القاطعين ومن أشهرهم روبسبيار ودانتون.. إنها لعنة القطة التي تأكل أطفالها. ثمة أيضا تفجر المطالب الاجتماعية والسياسية المعلقة تحت الاستبداد، وهي مطالب يستحيل على أي نظام سياسي تلبيتها.. كل هذا في ظروف تفجّر المطامح الشخصية والجهوية والحزبية -المشروعة منها وغير المشروعة- والصراعات الشريفة وغير الشريفة على السلطة. الثوار ليسوا من يجنون ثمار الثورة.
بعد الثوريين يأتي عهد الانتهازيين، وبعد الملحمة يأتي عهد خيبة الآمال، إذ يعود فقراء سيدي بوزيد إلى فقرهم، ويعود سكان المقابر في القاهرة لمقابرهم. فلا حلول جذرية لمشاكلهم وإنما كثير من الوعود التي قد تتحقق وقد لا تتحقق. أما من تغنم الغنيمة الكبرى ففي حالتنا هي البرجوازية التي كانت تتنعم تحت الاستبداد بمستوى مادي مقبول، لكن الاستبداد بقمعه للحريات وبفساده كان يسمم حياتها. وبتخلص الوطن من الاستبداد، ها هي تضيف -بفضل تضحيات المغلوبين والمساكين- إلى حقوقها الاقتصادية والاجتماعية حقوقَها السياسية التي كانت ممنوعة منها، بينما تجد الطبقات الفقيرة نفسها حائزة على حريات سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع.
لقائل أن يقول “فال الله ولا فالك”، هل يجب أن ننتظر نحن أيضا قرنا من الزمن لنحقق أهداف ثورة تعِدنا بأنها ستكون زمنا طويلا من الفوضى والعنف وخيبة الأمل، والمزيد من الفرص الذهبية للانتهازيين؟ لا تعجل عليّ باللوم فهذه قراءة النصف الفارغ من الكأس. والآن لرفع المعنويات هذه قراءة النصف الملآن وفيها المنجزات الثلاثة العظمى للثورة العربية، وهي لم تتجاوز بعدُ شهرَها الثاني.
الإنجاز العظيم الأول هو إعادة بناء الإنسان العربي، إذ فجأة وبدون مقدمات -أو هكذا يبدو- قطع الإنسان العربي مع حقبة كان فيها رعية لراعٍ. ولسائل أن يسأل: أين ذهب ذلك العربي العاجز الجبان الرعديد المحبط السلبي؟ ومن أين خرج هذا الشباب الثائر بكل شجاعته ووقاحته وتحديه؟ قد تكون الإجابة أن شطط النظام الفاسد في القمع والفساد والتزييف والاحتقار وضع الإنسان العربي أمام تحدٍّ وجودي: أكون أو لا أكون، فقرّر أن يكون.
ونظرا لموازين القوى اختار أن يسكت دهرا مستبطنا ومفكرا ومقيّما لحظة الانقضاض على جلاديه، وكان الأغبياء يأخذون طول ترقبه لهم على أنه استكانة نهائية واستسلام شامل. يا حكام العرب الذين ما زلتم تحكمون بعقلية الماضي، ويا حكام العرب في المستقبل انتبهوا، أمامكم إنسان جديد استرجع كرامته وثقته في نفسه وشعبه ولن يسمح لأحد أن يحتقره مجددا، ولا تنسوا أن السيد من هنا فصاعدا هو من يعطي المثل لا من يعطي الأوامر.
الإنجاز العظيم الثاني هو إعادة بناء الشعوب العربية، فالدكتاتورية لا تعيش إلا إذا نجحت في خلق غبار من الأفراد يخافون منها ويخافون من بعضهم البعض، ويمرّ الأمر بمنع كل تواصل لا تتحكم فيه الدكتاتورية. ذلك ما حاوله استبدادنا البغيض، لكن الثورة صهرت في بوتقتها الأفراد المعزولين عن بعضهم البعض وخلقت منهم مجموعة بشرية متلاحمة تثق في بعضها البعض وتواجه الموت جنبا إلى جنب، لفرض حقها في العيش الكريم. الأخطر من هذا أن هذه المجموعة التي نحتها لهيب الثورة اكتشفت قوتها وأنها قادرة على سحق الطغاة وكنسهم كما لو كانوا كدسا من القاذورات. عن هذا الاكتشاف الهائل يتولد الشعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء.. هكذا أصبحت الثورة لحظة تأسيس جديد ستبقى في ذاكرة الأجيال القادمة عنصرا أساسيا في تكوين هوية ذلك المارد النائم بعين واحدة طوال الحقبة المظلمة: الشعب.
الإنجاز العظيم الثالث هو إعادة بناء الأمة العربية، ولنتذكر أن الدكتاتورية بغّضت العربي إلى العربي باصطناعها خصومات الجزائري ضد المغربي والكويتي ضد العراقي واللبناني ضد السوري.. إلخ, والحال أنها لم تكن إلا معارك بين أنظمة شرسة غبية تتخاصم حول تقاسم النفوذ الشخصي، دون أدنى انتباه إلى المصلحة العامة. هي بغّضت إلى العرب حلم الوحدة العربية عندما ربطته بهذا النظام الاستبدادي أو ذاك، وهي جعلت كل عملية تقارب مستحيلة لأن الدكتاتوريات لا تتحد وإنما تتحارب، وكل دكتاتور لا همّ له إلا منع الدكتاتور الآخر من التعدي على مزرعته وقطيعه. الأخطر من هذا كله أنها بغضت إلى العرب أنفسَهم وهم يشاهدون تفككهم وعجزهم وتخلفهم وتواصل مأساتهم في ظل الاحتلال الداخلي والاحتلال الخارجي.
كل هذا انفجر مع الثورة المباركة.. هذه الأيام لا أحد ينتبه في تونس إلى ما يجري في تونس رغم دقة الأوضاع، وكل الأعين موجهة إلى ما يجري في ليبيا الحبيبة، وقبلها كانت أيادينا على قلوبنا خوفا من انتكاسة الثورة في مصر، وفي اليمن مشى المتظاهرون ينشدون النشيد الوطني التونسي لأن فيه الأبيات الخالدة لشاعر الأمة أبو القاسم الشابي. من ينكر اليوم أننا أمة يخفق قلبها بنبض واحد، وأن قناة الجزيرة هي اليوم من يعدّل النبض على نفس الإيقاع؟! أما أن يكون لهذا المعطى تداعيات بالغة الخطورة -ومنها عودة المشروع الوحدوي بقوة- فأمر لا شك فيه.
نعم الأحداث حبلى بدول عربية ديمقراطية تحررت من الاحتلال الداخلي وأحرزت استقلالها الثاني. وبانهيار الدكتاتوريات ستُرفع أكبر عقبة ضد التوحيد السياسي لأمة متحدة ثقافيا ووجدانيا، وستُرفع أيضا أوهام التوحيد الاستبدادي الذي كان دوما جزءا من المشكل لا من الحل. كما استطاعت أوروبا أن تتحد بعد انهيار الدكتاتوريات النازية والفاشية والشيوعية، فإن الأمة العربية ستبني على غرارها -بل وأحسن منها- اتحاد الشعوب العربية الحرة، والذي سيجعل من العرب المجموعة البشرية الثالثة بعد الهند والصين، ويعيد إليهم مكانهم في هذا الزمان.
إن فتح الفضاء العربي من المحيط إلى الخليج لتحرك الإنسان والرساميل في ظل أنظمة تحارب الفساد والظلم، سيعطي لأمتنا حيوية ستفاجئ كل الأمم، وسيمكننا من تفادي المستقبل المظلم الذي تنبأ لنا به تقرير 2009 لمنظمة الأمم المتحدة للإنماء، بل وقد يجعلنا لاعبا أساسيا بين القوى العظمى الخمس أو الست.
هذا ما سيعيد ترتيب شؤون العالم بكيفية لم يحسب لها كبار المخططين حسابا. منذ ثلاثين عاما وتحديدا عام 1981، صدر لي في تونس أول كتبي وعنونته “لماذا ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ؟”، تحديا لكل من يحتقرون أمتنا سواء أكانوا من أبنائها أو من أعدائها، ودعوة للإيمان بما تزخر به من طاقات جبارة ستنفجر عاجلا أو آجلا. صحيح أننا معرّضون لأخطار الفوضى والثورة المضادة وعودة الاستبداد مرة أخرى وطول الآجال لتحقيق أهدافنا،
لكن صحيح أيضا أننا اليوم قاب قوسين أو أدنى من هذا المريخ الذي بدا لنا يوما أملا حتى الحلم به جسارة مضحكة: مريخ الحرية والديمقراطية والتقدم، ولم لا في يوم من الأيام سنطأ المريخ الكوكب بأقدامنا وليس فقط بأحلامنا، وقد أصبحنا كما كنا أمة لا تضحك من جهلها الأمم. كان القرن الثامن عشر قرن الثورة الفرنسية والأميركية، وكان القرن العشرون قرن الثورة الروسية والصينية. أما القرن الواحد والعشرون فسيقول عنه المؤرخون إنه كان قرن الثورة العربية. هل سترفعنا هذه الثورة إلى القمم أم سترمينا في بؤر ربما تجعلنا نتحسر على ما فات كما يتحسر الشيوخ والعجائز في قرى روسيا على عهد ستالين؟
إنه التحدي الجبار المرفوع في وجوهنا ونحن أمام واحد من أخطر مفترقات الطريق الذي تمشي عليه هذه الأمة العظيمة منذ 15 قرنا.
قال أحمد شوقي: وما استعصى على قومٍ منالٌ إذا الإقدامُ كان لهم ركابا
فلندر الظهر لطريق الفوضى والإحباط والعنف، وليكن الإقدام لنا ركابا نحو قمم المجد, فكونوا يا عربُ جديرين بمستقبلكم، وعلى موعد مع الملحمة المتجددة، محركها الثقة في الله وفي النفس وفي قدرتنا نحن أيضا على أن نأتي بما لم تستطعه الأوائل.