في خضمّ الفوضى الفكرية العارمة لكثرة المعطيات وتضاربها واحتدام الصراع العبثي بين الأيديولوجيات وفي جوّ الشك المتزايد في السياسيين والإعلاميين والمثقفين، هل ثمة بوصلة تدلنا على الطريق؟
إنها موجودة منذ القدم، لكننا لا نراها من كثرة انشغالنا بما يبرق وهو ليس ذهبا.
لكي تبهرك بنورها الساطع تفحّص هذه الظاهرة.
جوان/يونيو 1990 حقّقت جبهة الإنقاذ الإسلامية فوزا كاسحا في الانتخابات التشريعية الحرة الأولى في تاريخ الجزائر.
وفي أكتوبر 2011 عندما أُجريَت لأول مرة في تاريخ تونس انتخابات حرة ونزيهة، كان الفائز حركة النهضة الإسلامية.
وفي جوان / يونيو 2012 كان أول رئيس انتُخب ديمقراطيا في مصر بعد ثورة 25 يناير الإسلامي محمد مرسي.
وفي أكتوبر 2016 كان الحزب الإسلامي -العدالة والتنمية-هو الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية المغربية.
يا لفداحة الخطأ الذي ارتكبه جهابذة العلمانيين وهم يفسرون الظاهرة بأنها رجوع شعب جاهل لما يسمونه “أفيون الشعب”. أعماهم الحقد الأيديولوجي عن التفطن لكون التعابير الدينية لم تكن إلا غلافا للحاجة الأخلاقية.
لم يَقلّ الإسلاميون عنهم سوء فهمٍ وهم يتصورون أن الناس صوّتت لأيديولوجيتهم وهم بالكاد يعرفونها.
لم يكن فهم الظاهرة بحاجة إلى أدواتِ بحث وتحاليل بالغة العمق.
كان يكفي أن تصغي لما يقوله الناس وأنت تسأل: لماذا أعطيتم أصواتكم للإسلاميين؟
ألقيت هذا السؤال على أكثر من جزائري من عامة الناس لاقيته صدفة في بداية التسعينات، وأعدتُ إلقائه بعد انتخابات أكتوبر 2011 في تونس.
لا أحد قال لي إنه صوت للإسلاميين لبرنامجهم الاقتصادي، فما بالك بتطبيق الشريعة أو إقامة الدولة الدينية.
كان الردّ دوما تلقائيا وبالغ البساطة: لأنهم ناس “نظاف” أي ليسوا فاسدين.
كانت القناعة العامة أن هؤلاء المترشحين -بِغَض النظر عن كونهم ضحايا يثيرون التعاطف-يتبعون ضرورة قيم الإسلام ومن ثَمّ يمكن أن نثق بأخلاقهم… على عكس الآخرين الذين قامت ضدهم ثورات الربيع العربي.
لن نناقش كَون الأحزاب الإسلامية ليست دوما بالأخلاقية التي تدّعي، أو أن فيها بشرا لهم كل عيوب وحسنات بشر الأحزاب الأخرى، أو أن “النظافة“ شرط ضروري لكنه غير كافٍ لممارسة السلطة. ما يهم في الظاهرة ليس هذا النقاش المبتذل.
عُد لأسباب اندلاع الثورات. لن تَجدها في نقمة الشعب على الأفكار والمشاريع التي كان الاستبداد يستمدّ منها شرعيته.
فالشعب الليبي لم يَثُر لأنه لم يكن راضيا عن تجربة اللجان الشعبية ولا كانت سياسة “الانفتاح” الاقتصادي لمبارك سبب ثورة الشعب المصري.
لقد قامت الثورة في كل بلدان الربيع العربي ضدّ السرقة (للمال العام) والتزييف (للانتخابات) والظلم (في توزيع ثروات الشعب) والغلظة والشطط في القسوة والعنف (في قمع الرأي المخالف) والمحسوبية (التوريث والجهوية والقبلية والعائلية في توزيع الثروة والاعتبار) والكذب (في الإعلام)، أي ضد مواقف وتصرفات لا توصَف إلا بأنها كانت غير أخلاقية منافية لأبسط القيم التي يجب أن تسود في أي مجتمع سليم.
لُبّ ظاهرة التصويت للإسلاميين إذن ليس الرجوع للدين (الذي لم نخرج منه يوما) وإنما شدة تعطّش شعوبنا إلى حركات ملتزمة بالقيم وبحثها المحموم عن أنظمة سياسية تمارسها فعلا لمعرفتها المغرقة في القدم أن القيم هي الطريق وهي الهدف وهي البوصلة.
*
تقول، يا للاكتشاف المذهل، ما الجديد في هذا الكلام؟
ألم نتعلم أهمية الأمر والرسولُ الأعظم نفسه يذكرنا على مرّ العصور بأنه لم يأت إلا ليتمّم مكارم الأخلاق؟
ألا نردّد كلنا منذ نعومة أظافرنا مقولة شوقي الشهيرة “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا”؟
ألا نثمّن جميعا القيم ونحاول الالتزام بها وإخفاء ما يحصل منا من تجاوزات لها؟
طبعا، لكن الموضوع ليس التغني بها وإنما تفسير تواضع النتائج بالقياس لكل ما نقول وما نفعل؟
كم ضاعت من نصائح الأم والجَدّ، من دروس التربية المدنية، من خُطَب الجمعة! كم أنفقنا على المربِّين والوعاظ، على القضاة ورجال الشرطة، على السجون والجوامع! كم جرّبنا من إصلاحات وثورات! … والمستوى الأخلاقي بين مدّ وجزر وفي كل الحالات لا يرقى أبدا للحدّ الأدنى المطلوب.
أين الخلل؟ إنه الاشكال الذي قَلّما نطرحه والذي يجب أن نردّ عليه إذا أردنا أن نتقدم في الفكر والفعل.
*
نعم أين الخلل؟ لاحقَني السؤال عقودا دون إجابة مقنعة إلى أن وجدتُ ملامح الردّ في ممارسة مهنتي: الطب الاجتماعي.
منذ ثمانينات القرن الماضي ومنظمة الصحة العالمية متزايدة الانشغال بجائحة السمنة، وهي تصيب مئات الملايين في العالم، بمضاعفاتها الخطيرة من سكّري وارتفاع الضغط وأمراض الشرايين، وتكلفتها الباهظة لصناديق الضمان الاجتماعي.
بالتعمق في البحث تبيّن أنّ أصل الجائحة ليس نهم الأفراد للحلويات وكسلهم المانع من القيام بالرياضة وجهلهم بأضرار بعض الأطعمة وضعف عزيمتهم في اتخاذ حمية صارمة. كَلّا، ما أصبحنا نعرفه اليوم هو أن السكر مخدِّر بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة، أي أن من تعوّد عليه صغيرا يصبح مدمنا ولا بدّ له من كمية تتزايد يوما بعد يوم ليصلَ لنفس المتعة، تماما كما هو الحال مع الأفيون.
انظر الآن نسبة السكر في المشروبات الغازية الأكثر شهرة ومبيعا. إنها تصل أحيانا عشرة أضعاف حاجيات الجسم. الكارثة أن الإدمان يبدأ باكرا وأن أكثر استهلاكا لهذه السموم السائلة الأطفال وخاصة المراهقين. كل هذا لتحقق شركات عالمية كمًّا هائلا من الأرباح، بالضبط كما كانت تفعل شركات التبغ الأمريكية التي جنت أرباحا خيالية من جائحة سرطان الرئة والمثانة وأمراض القلب والشرايين التي ابتليَ بها مئات الملايين من البشر، خاصة في دول الجنوب.
صِف الآن تصرفات المسؤولين عن هذه المصيبة الصحية الكبرى. ستكتب قائمة طويلة من التصرفات المنافية لأبسط القيم بل والتي ترقى لمستوى الجريمة المنظمة، فيها كلمات غشّ (المصنعين)، كذب (الإشهاريين) خيانة “باحثين“(اشترَت ضمائرَهم الشركاتُ الكبرى لدفع كل التهم بمنشورات علمية ملفّقة)، فساد سياسيين حموا اللوبيات من كل مراقبة ومحاسبة.
أيُّ معنى إذن لوعظ وإرشاد البدينين واتهامهم ضمنيا بالنهم والكسل وغياب الإرادة والجهل، والحالُ أنهم ضحايا التخدير والغشّ والتحايل؟
ما معنى أن نكلّف الضحايا مشقة التخلص من الأذى الذي أُلحق بهم والنتيجة دوما أكثر من متواضعة!
أليس من العدل والمنطق أن نطالب المصَنّعين والإشهاريين والتجار و” الباحثين“ والسياسيين بتغيير تصرفاتهم هم والتزام النزاهة والشفافية ووضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة وإجبارهم على الأمر إن مات فيهم الضمير؟
إنها بالضبط نفس الوضعية بخصوص القيم. يعطي الحكام كل صور الفساد والغش والتزييف ومنها الإدمان على أفخر الكحول في قصورهم ثم يطلقون البوليس الديني والبوليس السياسي لتتبع السكارى واللصوص المضطرين للسرقة في مجتمع لم يعد فيه إلا سارق ومسروق، كل الاختلاف في حجم السرقات ومستواها.
*
قبل المواصلة لا بد من توضيح المفهوم.
في مقاربة أولى يمكننا القول إن القيم هي كل المواقف والتصرفات التي تهدف وتنجح في تحقيق مصالح الأنا دون الإضرار بمصالح الآخر أو المجتمع وإذا وقع تناقض بين المصلحتين تضع المصلحةَ العامةَ فوق المصلحة الخاصة، مهما كَلّف ذلك من تضحيات.
بُعدٌ أعمقُ للمفهوم قَلّما يقع الـتأشير إليه.
اِعتبر قيمة الصدق. وراءها أمر: كن صادقا في تعاملك مع الناس. وراء الأمر فكرة: الصدق أنفع للإنسان من الكذب. إنها تجربة القرون التي يختزلها مَثَلُنا العامي: “إذا كان الكذب ينجّي (ينقذ) الصدق أنجى وأنجى”. هذه الفكرة لم تجرب وتثبت صحتها في زمان ما ومكان ما وإنما هي تجربة كل الشعوب في كل الأزمان. هذا ما يجعلنا نقول إن القيم هي الأفكار الوحيدة الصائبة التي يمكن أن نثق بها وأنها هي التي تضمن لنا أن مواقفنا وتصرفاتنا صحيحة.
استنتاجان هامّان، الأول نظري والثاني عملي.
على الصعيد النظري:
لا نبالغ إن قلنا إن القيم أفكار أثبتَت تجربةُ كل الشعوب وفي كل مكان جدواها وضرورتها، بينما الأفكار في أحسن الأحوال مشاريع قيم وفي أسوأها محاولة فاشلة لتجاوزها وتوظيفها.
لذلك عندما تختلط عليك الأمور وفي خضم كل هذا الزخم وهذه الفوضى الفكرية وكلُّ بائع أيديولوجيا يَصرخ أن بضاعته هي الحلّ، تفحص كل الأفكار المعروضة عليك أو التي تعرضها على الناس على ضوء القيم. إن لم تخالفها أصلا أو في التبعات فتيقن أنها أفكار صحيحة وتمسك بها وإلا ارمِ بها في الزبالة قبل أن تأخذك إلى الطريق الخاطئ أو حتى تقودك إلى الهاوية كما تفعل دوما مع المستبدين وأذيالهم.
على الصعيد العملي:
هنالك نوعان من التصرفات غير الأخلاقية داخل أي مجتمع: الخاصة والهيكلية.
أما الخاصة فهي التي لا تمسّ إلا دائرة ضيقة من الفاعلين ومنها كذب الطفل وخيانة الصديق وعنف الزوج، وكل هذه التصرفات مرتبطة بطبيعة الأشخاص وتباين ردود أفعالهم تجاه الآخر وخاصة خطأهم في معرفة مصلحتهم.
أما الهيكلية فهي الناجمة عن خلل أصيل وعميق في تنظيم المجتمع، ومن تبعاته إنتاج عقليات ومؤسسات وآليات وأفعال تؤذي عددا هائلا من البشر.
جُلُّ ما نعاني منه وما نبحث له عن حلولٍ النوع الثاني.
اِعتبر مثال العبودية أو الرأسمالية أو الاستبداد وستواجَه كل مرّة بنفس الاستنتاج: لا يمكن لتنظيم مجتمعي به خلل هيكلي بمثل هذه الخطورة إلا إنتاج سلسلة من المواقف والتصرفات اللاأخلاقية كأفعال وردود أفعال مدمرة وذات تكلفة إنسانية باهظة.
ومن ثَمّ يمكننا القول إنه:
– لأن التركيز على محاربة السلوكيات الفردية -الناتجة أساسا عن فساد الدولة والمجتمع-خطأ في تحديد الهدف الأساسي ومن ثَمّ لا فعالية للوعظ والإرشاد والتأثيم،
– لأن جل التصرفات اللاأخلاقية الباهظة الثمن هي المرتبطة بفساد الأنظمة المجتمعية السبع (النظام السياسي والاقتصادي والتربوي والقضائي والإعلامي والثقافي والإداري)،
– لأن الثورات قامت وستقوم لرفض الشعوب مواصلة العيش تحت سطوة قيمٍ مزيّفة،
– ولأن الاستراتيجي الألماني فون كلاوسفيتز صدَق عندما قال: “الحرب قضية أخطر من أن تُترك للعسكريين”،
فإنه يحق لنا اعتبار “القيم قضيةً أخطر من أن تُترك للوعاظ والمرَبّين” وبالتالي يجب التعامل معها من هنا فصاعدا على كونها قضية سياسية بامتياز، بل القضية السياسية الأولى في مجتمعاتنا.
كيف وبأي وسائل؟
*
لا جديد تحت الشمس. جَرّبَت كل المجتمعات التربيةَ الأسرية والمدرسية والوعظ الديني، وسَنَّت القوانين الصارمة للعقاب وكرّمت الفضلاء. حَدِّث ولا تسل عن المؤسسات التي خلقَتها على مرّ القرون لإصلاح كل ما يمكن إصلاحه في كل المجالات.
من الظلم القول إن كل هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح. إذ لولاها لأكل الناس بعضهم البعض. لكن الثابت مرة أخرى أننا نبقى دوما دون المطلوب.
نحن في الواقع مثل الطبيب الذي شخّص مرضا خطيرا ومُعديا في مجموعة معينة، لكن مكونات الدواء كانت ولا تزال متفرقة في ألف مَخبر، وعندما تُجمع تُعطى نادرا لأخطر المرضى الذين ينشرون الوباء.
ما المطلوب لتجاوز الوضع؟ ثلاثة أمور (رؤوس أقلام فقط)
1-لا بدّ من تغيير جذري لرؤيتنا للقيم واعتبار تنميتها وتعهدها والحفاظ عليها مهمةً لا تختلف عن تنمية وتعهد والحفاظ على ثرواتنا الطبيعية، بل اعتبارها الثروة الأولى التي لا توجد الثروات الأخرى إلا بفضلها ومن أديمها.
2-معنى هذا أنه يجب أن تكون لنا سياسات وبرامج قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، تستند على منهجيات علمية وأدوات مستحدَثة ومؤسسات جامعية إعلامية قضائية دينية تربوية تنسق بينها وتشخص أماكن الخلل في كل المؤسسات المجتمعية وتعالجها بكل ما في جعبتها من وسائل قانونية تردع وتعاقب وتكافئ، في إطار شراكة دائمة ومسترسلة بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.
-أمر كهذا غير وارد في نظام استبدادي لا يعيش إلا بكل التصرفات غير الأخلاقية، ولا يخلق إلا شَعبا من الرعايا سيحاربه طويلا بتصرفات من نفس الطبيعة فتتعفن الدولة والمجتمع على حدّ السواء.
هو أيضا غير وارد في نظام شعبوي لا يؤمن بالقوانين والمؤسسات وإنما فقط بالطهارة التي يقدمها الزعيم المقدس لشعب من الأطفال لحظة من الزمان قبل أن يفيق الجميع من أحلامهم الوردية.
بداهة، مثل هذه السياسة لا تكون بدولة ديمقراطية هي أملنا الأخير في التقدم في مشروع أَخلقَة الدولة والمجتمع.
المشكلة أن هذه الديمقراطية إما لم تصل بعد في بعض بلداننا، أو تمّ اختطافها أين وصلت من قِبَل القِوى التي جاءت لتقوّم اعوجاجها.